قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا"، وقال تعالى: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات"، أي: كثيرا، وقال تعالى: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة، لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى. قال: "ذكر الله تعالى".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ... وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله".
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجا بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه. وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالذباب. ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ، فإذا ذكره جلاه، وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار، والذكر.
والذكر يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه، وإرادته، وهمومه، وعزومه، والعذاب كل العذاب في تفرقتها، وتشتتها عليه، وانفراطها له، والحياة والنعيم في اجتماع قلبه، وهمه، وعزمه، وإرادته.
ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات على فوت حظوظه ومطالبه، ويفرق أيضا ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره، حتى تتساقط عنه، وتتلاشى وتضمحل، ويفرق أيضا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان، فإن إبليس لا يزال يبعث له سرية بعد سرية، وكلما كان أقوى طلبا لله سبحانه وتعالى، وأمثل تعلقًا به، وإرادةً له، كانت السرية أكثف وأكثر وأعظم شوكة، بحسب ما عند العبد من مواد الخير والإرادة، ولا سبيل إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر.
والذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سنته، والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نومٌ ثقيل.
والذكر يجلب للقلب الفرح والسرور، ويقوي القلب والبدن، وينوّر الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويكسو الذاكر المهابة والنضرة، كما أنه يفتح للذاكر بابًا عظيما من أبواب المعرفة، وكلما أكثر الذكر، ازداد من المعرفة، كما أن العبد إذا تعرف إلى الله بذكره في الرخاء، عرفه في الشدة، وهو أيسر العبادات وأجلها وأفضلها، فالعطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال.
ودوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون"، وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها، فهلكت، وفسدت ولا بد، كمن له زرع، أو بستان، أو ماشية، أو غير ذلك، مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله، ونسيه، واشتغل عنه بغيره، وضيع مصالحه، فإنه يفسد ولا بد.
ولا سبيل إلى الأمان من ذلك، إلا بدوام ذكر الله تعالى، واللهج به، وأن لا يزال اللسان رطبًا به، وأن يتولى منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد.
فحقيق بالعبد أن ينزل ذكر الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟! هذا هلاك لا بد منه، وقد يعقبه صلاح لا بد، وأما هلاك القلب والروح فهلاكٌ لا يرجى معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* بتصرف من كتاب الوابل الصيّب، لابن القيم - رحمه الله -
ليس "فقط"!
ـ[خلوصي]ــــــــ[25 May 2010, 11:09 ص]ـ
وابل صيّب .. و الرائد لا يخون أهله http://www.tafsir.net/vb/images/icons/icon7.gif
قصرتم كثيراً بحق الوابل و صاحبه و منتظريه!