والتحكيم في هذا الباب: للقاعدة الكبرى التي يكون عليها مدار الشرع والقدر وإليها يرجح الخلق والأمر،وهي: إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما وإن فاتت المصلحة التي هي دونها، والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها. فتفوّتُ مصلحةً لِيُحصِّل ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها.
فخطرات العاقل وفكره لا يتجاوز ذلك، وبذلك جاءت الشرائع، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على ذلك.
وأعلى الفِكَر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة.
فما كان لله؛ فهو أنواع:
أحدها: الفكرة في آياته المنزلة، وتعقلها، وفهم مراده منها، ولذلك أنزلها الله تعالى، لا لمجرد تلاوتها بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا.
الثاني: الفكرة في آياته المشهودة،والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه وبره وجوده.
وقد حث الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها، وذم الغافل عن ذلك.
الثالث: الفكرة في آلائه،وإحسانه،وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة مغفرته ورحمته وحلمه.
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه.
ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يَصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.
الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفى عيوب العمل.
وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهي باب لكل خير،وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء،ومتى كُسِرت؛ عاشت النفس المطمئنة وانتعشت وصار الحكم لها،فحيي القلب، ودارت كلمته في مملكته، وبث أمراءه وجنده في مصالحه.
الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه.
فالعارف ابن وقته فإن أضاعه؛ضاعت عليه مصالحه كلها.
فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدا، قال الشافعي رضى الله عنه: صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين: أحدهما قولهم:الوقت سيف؛ فإن لم تقطعه قطعك، وذكر الكلمة الأخرى:ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا؛ شغلتك بالباطل.
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم،ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر أسرع من مر السحاب.
فما كان من وقته لله وبالله؛ فهو حياته وعمره،وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإن عاش فيه؛عاش عيش البهائم.
فإذا قطع وقته في الغفلة والشهوة والأماني الباطلة،وكان خير ما قطعه بالنوم والبطالة؛ فموت هذا خيرا له من حياته.
وإذا كان العبد ـ وهو في الصلاة ـ ليس له من صلاته إلا ما عقل منها؛ فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله.
وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر؛ فإما وساوس شيطانية،و إما أماني باطلة وخدع كاذبة، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين، ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق:
إنْ كانَ مَنْزِلَتي في الحشرِ عِنْدكُمُ ما قدْ لقيتُ فقدْ ضَيَّعتُ أيَّامي
أمْنِيّةٌ ظَِفرتْ نفْسي بها زَمناً واليومَ أحسبُها أضْغاثَ أحْلام
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته.
فالخاطر كالمار على الطريق؛فإن لم تستدعه وتركته؛ مر وانصرف عنك، وإن استدعيته سحرك بحديثه وخدعه وغروره.وهو أخف شيء على النفس الفارغة بالباطلة،وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.