تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان من النواحي التي برز فيها، وبرزت فيه، قوة الخطابة. لقد برزت فيه منذ أول شبابه، وكانت أول خطبة له سنة 1921م على درج مدرسة طارق ابن زياد، وخطبة نارية سنة 1929م وهو يقود المظاهرة المدوية في دمشق ضد الاحتلال، وامتدت خطبه سواء أكان يعدها سابقاً، أو يعد لها رؤوس أقلام، أو يرتجلها ارتجالاً. وخطبه تؤلف زاداً أدبياً وفكرياً لا يقل أهمية عن مقالاته ودراساته وأبحاثه (3).

لقد كان أديباً مطبوعاً في كل ما يكتب أو يخطب أو يحدث، وقد فتح الله له منافذ عدة يطلق منها صوته، وساحات ممتدة ينشد فيها بيانه فبذل جهده إن شاء الله ليوفي بالأمانة التي خلق لها، والعبادة والخلافة والعمارة فحيثما طوَّف في الأرض كان الإسلام قضيّته.

أصدقاؤه:

وكان له أصدقاء مصطفون، شاء الله أن يتلازموا فترات طويلة. فكان منهم الشاعر الموهوب أنور العطار، ومصطفى الزرقا، وجميل سلطان، وسعيد الأفغاني، وزكي المحاسني، ومربي الجيل السابق الشيخ طاهر الجزائري، وأبو الحسن الندوي، ومعروف الأرناؤوط، وامتدت معارفه في كل قطر، مما يصعب حصرهم في هذه الكلمة ولكنهم أدباء بارزون وسياسيون معروفون وعلماء لا يُجْهَلُون (4).

كان شديد العداء لأعداء الله، صريح الكراهة قوي الكلمة، يقرعهم قرعاً، ويشدُّ عليهم حتى يتركهم صرعى. ولا يترك وسيلة لتآلف القلوب على الحق إلا اتبعها، وكان لا يتردد ـ رحمه الله ـ أن يعترف بخطئه إذا بان له الحق وانجلى الأمر. كان قد كتب كلمة في إحدى صحف دمشق انتقد فيها بعض الأمور على ضوء ما بلغه، فلمَّا زرناه استقبلنا وأحسن الاستقبال والاستماع، حتى إذا أوضحنا الرأي ووجهة النظر، سارع فاعتذر، وكتب في الصحيفة نفسها وفي المكان نفسه ما بان له من الحق وما ظهر.

كان ـ رحمه الله ـ وقافاً على الحقِّ، يبحث عن الحجة والبينة، لا يعصف به الهوى ولا ينحرف. وكذلك قصته مع المفتش المصري في العراق هاجمه وأغلظ في النقد، حتى إذا تبين له أين الخطأ وأين الصواب، عاد إلى الحق وكان له مواقف مماثلة.

استقلاليته:

وهو يصف نفسه فيقول: " وما ركب الله في طبعي أنني طريٌّ باللطف، أبيٌّ على العنف فمن جاءني من باب اللين والمسايرة والرفق غلبني، ومن جاءني عن طريق التحدي والمكاسرة، نازلته فكسرني أو كسرته "!

ويقول: " ذلك لأن طبعي يأبى عليَّ العمل الجماعي، إلا أن أدعى إلى خطبة أخطبها، أو محاضرة ألقيها، أو رأي أبديه ثمَّ أمضي إلى سبيلي. وما انتسبت في حياتي إلى حزب ولا جمعية ولا هيئة "!

ويقول: " وأنا مهما حاولت أن أروّض نفسي على طاعة المفتشين والرؤساء لا أستطيع وأجدني مدفوعاً دفعاً لا يقاوم إلى المنازلة وإلى مجابهة من يأمرني وينهاني مستعلياً بما أكره إلا اثنين: من كنت أرى أنه له الفضل عليَّ بعلم أو سن أو تجربة ... ، ومن يجيء باللطف والأدب واللين ... " (5)!

وكان لا يحب النزول في المنازل ضيافة ويؤثر عليها الفندق ويصرُّ على ذلك، ولكن إذا وجد غرفة أو أكثر مستقلتين، فإنه يؤثر ذلك على الفندق فهو يصف نفسه في ذلك ويقول: " لا أحب النزول في الفنادق (6) ".

أسلوب متفرد:

يقول عن نفسه: " إنني اتبعت في الكتابة أسلوباً يكاد يكون جديداً، عرف بي وعرفت به. وما كان في أساتذتي الذين قرأت عليهم، ولا في الأدباء الذين قرأت لهم، وأفدت منهم من له مثله حتى أقلده فيه وأتبع أثره. وإن كان فيهم من هو أبلغ مني، وأعلى درجة في سلم البيان .. " فمن أين جئت بهذا الأسلوب؟! أعترف بأنه ليس عندي جواب حاسم على هذا السؤال. فمن أين أتيت بهذا الأسلوب الذي أكتب به؟! لم آت به ثمرة بلا شجرة، فما تكون الثمار إلا من الأشجار، ولا أوجدت شيئاً من غير شيء .. ! وما مثالنا إلا كتاجر فتح دكانه على طريق القوافل، يوم كانت التجارة على طريق المقايضة، ولم تكن وجدت نقود. يمر به المسافرون دائماً، وكلَّما مرَّ به أحد أخذ منه سلعة وأعطاه سلعة أخرى، ولبث على ذلك أكثر من خمسين سنة. فاجتمعت عنده مئات من الأشياء من كل صنف وكل لون. فهل ترونه يعرف كل شيء منها ممن أخذه ومتى أخذه، وما الذي أعطاه بدلاً منه! هذا مثالي ومثال من كانت حاله كحالي ... ما قرأت كتاباً ولا جالست عالماً ولا أديباً، ولا سمعت خبراً، ولا رأيت سروراً ولا كدراً،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير