ومن خلال تدريسه للأدب كان يشرح القصيدة ويحللها تحليلاً جميلاً. وكان يكتب هذا التحليل. فله دراسة لقصيدة أبي تمام التي يصف بها حريق عمورية. وعلّق على وصف الطبيعة وجعل شعراءها ثلاث مراتب. أدناها يرى الطبيعة متحفاً، وأوسطها يراها مرآة تتجلى فيها حالات نفسه، وأعلاها أن يفيض الشاعر الحياة على الطبيعة، فتحس كما يحس الأحياء، وتفرح وتتألم، وتفكر وتعتبر، ويضرب مثلاً على ذلك بقصيدة البحتري في وصف بركة المتوكل، وفيها يقول: (11)
ما بَالُ دِجْلة كالغيرى تنافسها =في الحُسْن طَوْراً وأطواراً تُحَاكيها
وكذلك قصيدة " الجبل " لابن خفاجة الأندلسي:
وَأَرْعَن طماح الذؤابة باذخ= يطاول أعنان السماء بغارب
وحين كان يدرس قصيدة جرير في رثاء زوجته عرض لكل من رثى زوجته من الشعراء في دراسة ممتعة، وتحليل واف، ونقد صائب. وكذلك مع سائر الموضوعات التي يطرقها في دراسته أو تدريسه فيحلل قصيدة بشار في وصف الجيش تحليلاً ممتعاً:
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى= وبالشوك والخطي حمر ثعالبه
وكذلك يختار الروائع لأبي تمام وللمتنبي والبحتري، ويجول فيها جولات الأديب الناقد، والحس المرهف، ويعيش مع قصيدة البحتري في وصف العرض العسكري يوم العيد، كأنَّ القصيدة فِلْم يعرض الصورة والصوت، وكأننا لا نزال نسمع الصوت بعد أكثر من ألف سنة (12).
إن اختيار هذه الروائع ليدل على الذوق العالي، والاطلاع الواسع، والموهبة المتفتحة. أديب وناقد، وعالم متمكن غني الزاد. ولقد كان يكتب في مجلة الرسالة مقالات في السياسة، والحماسة، والأدب، والنقد والقصص التاريخي. وكان يكتب في غير الرسالة أيضاً. عدد مقالاته لا يكاد هو يحصيها، وما فقد منها أكثر مما بقي.
مؤلفاته:
ولم يقف عطاؤه عند هذا كله فحسب. ولكنه امتدَّ إلى المؤلفات، فله ما يزيد عن أربعين كتاباً. فإذا بدأت قراءة واحد من هذه الكتب، لا تكاد ترغب أن تتركه، حتى لو هاجمك النعاس: قصص من التاريخ، رجال من التاريخ، قصص من الحياة، في التحليل الأدبي، سلسلة أعلام التاريخ، وغير ذلك، ففي كل ما يكتب هو مؤرخ وأديب وناقد في وقت واحد .... وحسبك " ذكرياته " في أجزائها الثمانية، علم وأدب وتاريخ وأحداث وفقه، مواهب جامعة، ورجل جامع.
ولقد كتب المقدمة لعدد غير قليل من الكتاب والمفكرين ربما يزيدون عن خمسة وعشرين كاتباً. ولقد كتب مقدمة لأبي الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ كان يعتز بها الندوي، ولمحمود الصواف، ومقدمة ديوان أنور العطار، وغير ذلك.
شهادات:
ولقد كتب عنه كثيرون ولعل كلمة الزيات في مجلة الرسالة تلقي الضوء على مكانة شيخنا الطنطاوي: " الأستاذ علي الطنطاوي أو الشيخ علي الطنطاوي كما يجب أن يدعى، ثمرة ناضجة من ثمار الثقافة العربية الحديثة، ثقف علوم الدين وعلوم اللسان ثقافة محيطة، ثمَّ درس القانون دراسة فقهية. وشارك في إيقاظ النهضة الفكرية والدينية والاجتماعية في سوريا مشاركة منتجة فله في قيادة الشباب محل، وفي توجيه الآداب طريقة، وفي سياسة الإصلاح مذهب ... ".
وكتب العقاد عن مقالة له: " ومن أصغى إلى هذا الخطيب المطبوع وهو يتكلم علم أن أداة البيان قد تمت له لفظاً وحساً، كما تمت له بداهة ومعنى، فصوته من تلك الأصوات الغنية ـ كما يقولون في اللغات الأوروبية ـ لا تحس فيها جهداً، ولا حاجة إلى جهد، لأنه يملك عليك جوانب السمع ".
إنه أديب مطبوع، جعل من الأدب منزلة عالية في حياة الأمة، وأوضح سبيله، وخاض غماره. فاسمعه يقول (13):
" الأديب في الأمة لسانها الناطق بمحاسنها، الذائد عن حماها، وقائدها إلى مواطن فخرها وذرى مجدها. فهل عندنا الأديب الذي عرف آلام الأمة وآمالها، وبحث فيما يسرها ويسوؤها، ثمَّ جرد قلمه لتصوير آلامها والسعي لإبلاغها آمالها ".
وأفاض في وصف الأديب الذي تحتاجه الأمة، حتى قال: " كنَّا نأمل أن ينشأ فينا مثل هذا الأديب .... حتى فاجأنا صوت خرج من حلق وطني بإيعاز أجنبي، يقول لأدبائنا: دعوا الوطن وشأنه، لا تسخِّروا أدبكم له، ولا تتعبوا أنفسكم من أجله، بل الهوا والعبوا، فما الأدب إلا ألهية .. ".
¥