ومن أظهر الأدلة على أن المراد بهذا المثل المنافقون أن الله تعالى قال هنا في حقهم:? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ? (البقرة:18)، فسلب الرجوع عنهم؛ لأنهم آمنوا ثم كفروا، وفارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به، واستناروا بنوره، فهم لا يرجعون إليه، ما داموا على هذه الحال. وقال تعالى في حق الكافرين:? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ? (البقرة:171)، فسلب العقل عن الكافرين؛ لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان. وقال عنهم في آية أخرى:? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ? (الأنفال:22).
ـ[نائل سيد أحمد]ــــــــ[19 - 11 - 2006, 12:17 م]ـ
?أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? (البقرة: 19 - 20)
هذا مثل آخر يصَوِّر أحوال المنافقين مع القرآن الكريم، ومواقفهم منه بصورة قوم، أخذتهم السماء في ليلة شديدة المطر، فيها ظلمات من السحب الكثيفة المتراكمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الهلاك والموت، فلقوْا من الهول والشدَّة ما لقَوا. وهو معطوف على المثل السابق:? مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ?.
والتقدير في العربية:? مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .. أَوْ مَثَلُهُمْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ .. ?.أي: مثلهم كمثل هذا .. أو مثلهم كهذا. فأضمر?مَثَلُهُمْ ? الثانية بعدَ ?أَوْ ? لدلالة ?مَثَلُهُمْ ? الأولى عليها. وحسَّن هذا الإضمار- هنا- العطف بـ?أَوْ ? الفارقة أولاً، واختلاف الأحوال الممَثَّلة في المثلين ثانيًا. ولو كان العاطف هو {الواو}، لما حسُن هذا الإضمار؛ لأن {الواو} تشرك بين المعطوفين في اللفظ والمعنى، بخلاف {أَو}، التي تشرك بينهما في اللفظ فقط.
ولهذا لا يجوز العطف هنا بـ {الواو}. والدليل على ذلك أنه لم يعطف بـ {الواو} في مثل هذا التركيب، في موضع من المواضع، وكل ما ورد في القرآن، ورد معطوفًا بـ?أَوْ ?؛ نحو قوله تعالى:
?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ .. ? (النور:39 - 40).
تقديره: أعمالهم كسراب .. أو أعمالهم كظلمات.
وقوله تعالى:? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ? إلى قوله:? أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا .. ? (البقرة:258 - 259).
تقديره: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم .. أو ترَ كالذي مرَّ على قرية.
وكذلك قوله تعالى:? مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ?، تقديره: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا .. أو مثلهم كصيِّب من السماء .. فدل على أن للمنافقين حالان: حال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وحال مع القرآن الكريم. وبهذا يعلم أن الغرض من هذا التمثيل هو تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْفي التمثيل الأول.
وعليه يكون التقسيم في التمثيلين لتنوع الأحوال، لا لتنوع الأشخاص. ولهذا عطف الثاني على الأول بـ?أَوْ ?الفارقة، التي تؤذن بتساوي المثلين في استقلال كل منهما بوجه الشبه، وبصحة التمثيل بكل واحد منهما، وبهما معًا، لا بتساويهما في التمثيل، بخلاف الواو الجامعة .. يدلك على ذلك أنه لو قيل: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا .. وكصيِّب .. لربما أوهم صحة التشبيه بمجموعهما، لا بكل واحد منهما، وحينئذ يعتقد أنهما مثل واحد، لا مثلان.
¥