تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[قرأت لك: محمد عبد الرحمن خليفة]

ـ[نائل سيد أحمد]ــــــــ[28 - 11 - 2006, 01:13 م]ـ

حروف مجنحة: ... وتلك أيام قد خلت يا أبا ماجد

بلال حسن التل

الموت هو الحقيقة الكبرى التي تذكر الانسان بحقيقة وجوده على هذه الارض وبهدفها وبنهايتها. وعندما يضع الموت حداً لحياة رجل كبير مثل المغفور له بإذن الله المرحوم محمد عبد الرحمن خليفة فأول ما يُغيب جسد الميت اما مسيرته وسيرته فتبقى بحسب الدور الذي اداه في الحياة جيلا أو اجيالا. وربما قرونا ليستفيد الأحياء من بعده من تجربته. فإنما تتطور حياة الفرد والجماعة والأمة بل والبشرية كلها من مجموع تجاربها المتوارثة. وفي ظني أن رحيل ابى ماجد عن هذه الدنيا الفانية يجب أن يشكل لحظة مراجعة وتقويم لمسيرته ولمسيرة الجماعة التي انتمى إليها الرجل. وانفق في سبيلها زهرة شبابه وكل سنوات كهولته وشيخوخته. فكان لها الربان الماهر الذي جنبها الارتطام بالعواصف ونجا بها من القواصم. وقد كانتا كلتاهما «العواصف والقواصم» كثيرة في وجه الدعوة خلال السنوات التي تولى فيها الرجل قيادة سفينتها. قبل أن يأتمر به بعض الطامعين في الدنيا ليخرجوه من كبينة قيادته التي ظل خلال وجوده فيها لعقود وفيا لثوابت دعوته منافحا عنها حتى الرمق الاخير. في حين قفز بعض الذين كانوا يتهامسون ضده في الخفاء من حضن الدعوة الى احضان الاخرين مقابل اثمان بخسة من عرض الدنيا الزائل التي طالما ضربها الراحل بقدمه وازاحها عن طريقه حتى لا تشغله عن دعوته. والعارفون ببواطن الأمور يعلمون ان أعلى المناصب عرضت على الرجل فأشاح عنها وظل ممسكا بجمر دعوته وفيا لها رغم كل المخاطر التي اعترضت طريقها وطريقه.

مات ابو ماجد والاخوان المسلمون يحيون مئوية مؤسس جماعتهم ومرشدها الاول الامام حسن البنا وقد رحل ابو ماجد عن تسعين عاما. اي انه من جيل المؤسس تقريبا ولكنه عايش الدعوة سنوات اطول من سنوات مرشدها الاول. وعانى من عذابات اضطهادها اكثر مما عانى مرشدها الاول. لا لشيء الا لان المرشد قضى وهو بعد في ريعان الشباب تاركا امانة الدعوة وعذاباتها لمن ظل من بعده. وقد كان محمد عبد الرحمن خليفة في طليعة هؤلاء وأكثرهم حملا للمسؤولية والأمانة والدعوة. خاصة بعد ان غيبت السجون واعواد المشانق قادتها وخيرة شبابها. وضيقت الدول والانظمة الخناق على من ظل حيا طليقا منهم وفي هذه اللجة المتلاطمة نجح ابو ماجد في ايجاد المعادلة الذهبية في العلاقة بين الدعوة والسلطة. دون افراط او تفريط. وبهذه المعادلة الذهبية استطاع ابو ماجد ان يوفر للدعوة ورجالاتها قاعدة متينة وحضنا دافئا ليس على مستوى الاردن فحسب. بل وعلى مستوى العالم كله. حيث فتح الاردن قلبه وذراعيه لجل الهاربين من اضطهاد الانظمة ومطاردات الاجهزة من ابناء الجماعة وهي واحدة تسجل للقيادة الاردنية التي لمست بابي ماجد اخلاصا لوطنه لا يتناقض مع اخلاصه لدعوته. بل لعلهما وجهان لعملة واحده نحب ان تظل واضحة في ذهن وسلوك الذين يسيرون على درب الجماعة. وبفضل هذه المعادلة الذهبية تمكن الرجل من ان يخدم بلده ودعوته معا وتمكن من ان يخدم قضايا امته وفي طليعتها قضية فلسطين دون ان يفرط بحق من حقوق الاردن. واستطاع ان يوفر حضنا دافئا لكل أبناء الجماعة الهاربين من أوطانهم دون أن يحول الاردن الى قاعدة لايذاء الاخرين. بل لقد صار الأردن نموذجا للتعايش بين الدولة والحركة الاسلامية. وفي ظل هذا النموذج تمكن المرحوم محمد عبد الرحمن خليفة من ان يجذر جماعة الاخوان المسلمين في التربة الاردنية باعتبارها مكونا من مكونات النسيج الوطني الاردني الذي يخدم مجتمعه ويشارك في تطويره. ويكفي انه في ظل قيادة المرحوم محمد عبد الرحمن خليفة تمكنت الجماعة من تأسيس صروحها الطبية والتعليمية والاقتصادية التي حولتها ايضا الى القوة السياسية الاولى في البلاد. دون ان يصرفها ذلك عن هدفها الاول اعني الدعوة وتربية الاجيال على قيم الاسلام لذلك فإن الامانة التي تركها الراحل كبيرة في اعناق من يتولون مسؤولية الجماعة من بعده واولها ان يحافظوا على ما ورثوه ان لم يزيدوا عليه.

مات ابو ماجد في زمن انقلبت فيه الكثير من المفاهيم. ولعل من أهم هذه المفاهيم التي انقلبت ما كان قد لخصه لي ذات مساء نائب المرشد العام للاخوان المسلمين المغفور له بإذن الله صلاح شادي عندما قال: «كنا نحمل الدعوة الى الناس فصارت الدعوة تحملنا الى الناس» نعم لقد كان الاوائل من أبناء الجماعة دعاة يبشرون بدعوتهم ويتحملون في سبيلها السجن والتعذيب واعواد المشانق. وينفقون في سبيلها الوقت والجهد والمال. حتى اذا ما ضربت جذورها في بعض اوطان الامة جاء إليها من صار يتسلق على اغصانها ليأكل منها دون أن يسهم في ارواء جذورها. وصار بعض المحسوبين عليها يتنافسون على المغانم ويفرون من المغارم. لذلك لم يعد غريبا ان نسمع عن انشقاق بسبب انتخابات ولم يعد غريبا ان تتبدل فتوى البعض بتبدل مغانمه. وتلك واحدة كان ابو ماجد يقف سداً منيعاً في وجهها.

مات ابو ماجد وفي النفس غصة لفراقه. فقد عرفت الرجل عن قرب وعملت بمعيته في قضايا شائكة ومعقدة. وتشرفت بأن كلفني مراراً ببعض المهام. واشهد انه كان قائداً يعرف متى وكيف يتخذ القرار، واشهد انه كان يرى في نفسه كمراقب عام لجماعة الاخوان المسلمين اكبر من مواقع كثيرة كان الناس يترامون على عتباتها. وتلك هي صفة الزعيم الحقيقي الذي يكبر بدعوته ويرتفع بها الى الذرى. اقول ذلك وقد حملت له أكثر من رجاء من أكثر من زعيم يطلبون لقاءه فكان يرفض حتى لا يضع نفسه ودعوته في موقع الشبهات. خاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين التي كانت قضيته الاولى وشغله الشاغل. ولعل هذه من اهم عوامل قدرته على ترسيخ الوحدة الوطنية التي قدمت الجماعة في عهد الراحل نموذجا فذاً لها ونحب ان تظل كذلك حتى لا نقول ونحن نسترجع ذكرياتنا مع الراحل وعنه تلك ايام قد مضت يا أبا ماجد.

وبعد فقد قضى ابو ماجد وبين اوراقه اسرار كثير نأمل ان لا تطالها يد الاهمال لأنها جزء من تاريخ دعوة ومسيرة وطن وارث أمة ستظل قادرة على انجاب الكبار امثال محمد عبد الرحمن خليفة يرحمه الله.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير