وفي ذلك إشارة إلى أن حركتهم، إن لم تكن معدومة، فهي بطيئة جدًا؛ لضعف قواهم، ومزيد خوفهم، رَغْمَ حرصهم الشديد على المشي؛ وكأنهم لا يمشون. ويدل على ذلك أنه في مصحف عبد الله بن مسعود:? مَضَوْا فِيهِ ?بدلا من? مَشَوْا فِيهِ ?، فعبَّر عن ذلك بالمضيَّ، الذي يدل على انعدام الحركة.
وقال تعالى:? وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ?، فعلق ذهاب سمعهم وأبصارهم بمشيئته سبحانه، فأفاد ذلك أن الله تعالى، لو شاء، لذهب بأسماعهم وأبصارهم من غير سبب، أو بسبب آخر غير قصيف الرعد، ووميض البرق، فلا يغنيهم ما صنعوه من سدِّ الآذان وغيره، وقد أحاط بهم الهلاك من كل جانب؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك
? وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ? (الروم:6).
وهذا الوعد هو المشار إليه بقول الله تعالى:
? وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ? (التوبة:68).
ولإفادة هذا المعنى- أعني: تأخير العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب?لَوْ ? الشرطية. هذه اللام، التي أجمعوا على القول بجواز سقوطها من الكلام؛ لأنها- عندهم- زيدت للتأكيد، وهم معذورون في ذلك؛ لأن أسرار القرآن الكريم أكثر، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر؛ فلا عجب أن قالوا بجواز سقوطها، ولم يعلموا أنها لو سقطت، لأفاد سقوطها التعجيل بوقوع الجواب، خلافًا للمراد.
أما?شَاءَ ?فهو فعل منزَّل منزلة اللازم، ولا يجوز أن يُصَرَّح بمفعوله، إلا في الشيء المستغرب. ولا يُكتفَى فيه بدلالة الجواب عليه؛ بل يصرح به، اعتناء بتعيينه، ودفعًا لذهاب الوهم إلى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به واستغرابه.
وبيان ذلك: أنك إذا قلت: {لو شئت لبكيت دمًا}، فإنه يحتمل تعليق المشيئة ببكاء الدمع، على مجرى العادة، وأن ما ذكرته من بكاء الدم واقع بدله من غير قصد إليه؛ وكأنك قلت: لو شئت أن أبكي دمعًا، لبكيت دمًا .. أقول: هذا المعنى محتمل، وإن كان تقييد البكاء في الجواب بالدم، يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد؛ فإذا ذكر المفعول، زال هذا الاحتمال، وصار الكلام نصًّا فيما قصِد به.
والمشيئة- عند أكثر المتكلمين- كالإرادة سواء. وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته، وإن استعملت عرفًا في موضع الإرادة. وذهب بعضهم إلى أن المشيئة من الله تعالى هي الإيجاد، ومن الناس هي الإصابة. قال: والمشيئة من الله تقتضي وجود الشيء؛ ولذلك قيل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والإرادة منه سبحانه لا تقتضي وجود المراد، لا محالة. ألا ترى أنه سبحانه قال:? يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ? (البقرة:185)،? وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ? (آل عمران:108)، ومعلومٌ أنه قد يحصل العسر، والتظالم فيما بين الناس! ولهذا قال تعالى هنا:? وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ?، ولم يقل: {وَلَوْ أَرَادَ الله}.
وقوله:? وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذهَبَ .. ?قال الفرَّاء:” المعنى- والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره، بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من أذهبت. وقد قرأ بعض القرّاء:? يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهبُ بِالأَبْصَارِ?،بضمِّ الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم:? وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَينَاءَ تُنْبِتُ بالدُّهْنِ ?. فترى- والله أعلم- أن الذين ضمُّوا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذْ بالخطام، وخُذِ الخطامَ، وتعلَّقتُ بزيدٍ, وتعلَّقتُ زيدًا. فهو كثير فى الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك لقلَّته “.
وقد سبق أن ذكرنا سر دخول هذه الباء في قوله تعالى:? ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ? (البقرة:17) في المثل الأول، وبينا الفرق في المعنى بين قولنا: ذهب بالشيء، وأذهب الشيء، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ولقائل أن يقول: لمَ أفرد السمع، وجمع البصر في قوله تعالى:? لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ?؟ وما السرُّ في تقديم الأول على الثاني؟
¥