وخطورة المذهبين الأولين أن من جمد على كتب المذاهب، أعطى الفرصة سانحة لمن يقدح في مذهب أهل السنة والجماعة، المعظمين لأئمتهم بلا غلو أو تقديس، أعطاه الفرصة ليشنع على طريقة أهل السنة في تحرير الفروع الفقهية، كما حصل من بعض المخالفين من الفرق الإسلامية، التي عرف عنها تقديس الرجال لدرجة الغلو المذموم، فرمونا بدائهم وانسلوا، وما شجعهم على ذلك إلا هذا الغلو المفرط الذي وقع من بعض المنتسبين للمذاهب الفقهية، وخاصة المتأخرين، وهو غلو لا ننكره، بل إن علماء أهل السنة المحققين، ومن أبرزهم شيخ الإسلام، رحمه الله، قد خاضوا معارك ضارية مع متعصبة المذاهب لرد الأمة إلى الكتاب والسنة من جهة، وللرد على الطاعنين في مذهب أهل السنة، عن طريق تصيد أخطاء المذاهب، ومن ثم نسبتها إلى عموم أهل السنة، فيتصور الناظر أن هذا القول الشاذ هو القول المعتمد عند أهل السنة، مع أنه قد يكون قولا مرجوحا في المذهب نفسه فضلا عن أن يكون مهجورا لا يعمل به أحد، وإنما يحكيه من يحكيه لإبطاله والرد عليه لا إقراره.
فتجد المخالف، ينسب إلى أهل السنة القول بإباحة النبيذ المسكر، مع أن جمهور أهل السنة يحرمونه ويبالغون فيه حتى يحدون الشارب المتأول، ولهم في فسقه قولان، كما حكى ذلك شيخ الإسلام، رحمه الله، ونجده ينسب إلى أهل السنة القول بحل أكل الكلاب!!!، مع أنه مما انفرد به المالكية، رحمهم الله، ولم يتابعهم أحد عليه، ونجده ينسب إلى عموم أهل السنة القول بجواز اللواط بالعبيد!!!!، وإباحة الملاهي ........ الخ، من الأقوال الشاذة التي لا تصح نسبتها لأهل السنة بأي حال من الأحوال.
ولشيخ الإسلام، رحمه الله، تحقيق جيد، في رد مسائل شنع بها صاحب "منهاج الكرامة" على أهل السنة، اعتمادا على هذه الأقوال المذهبية الباطلة، وهو في "منهاج السنة"، (3/ 415_443).
وله مناقشة فرعية مهمة في طيات هذا البحث النفيس، لقول صاحب "منهاج الكرامة": (وأحدثوا، أي أهل السنة، مذاهب أربعة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم)، وهي شبهة دارجة في أوساط كثير من المحتقرين لتراث الأمة الفكري بدعوى "التجديد"، إذ يرد بقوله:
"وإن قلت: إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس، فهذا لم يحصل بمواطأة، بل اتفق أن قوما اتبعوا هذا، وقوما اتبعوا هذا، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق، فرأى قوم هذا دليلا خبيرا فاتبعوه، وكذلك الآخرون". اهـ
فالمذاهب وسيلة لفهم النصوص، تماما كعلوم الآلات: المصطلح والأصول والنحو والصرف والبلاغة ........ الخ، لا تقصد لذاتها، وإنما يستعان بها على فهم دلالات النصوص، ولذا يذم من أفرط في تعاطيها لدرجة الانشغال بها عن المقصود الأسمى، وهو: فقه نصوص الشريعة، وكذا الحال بالنسبة لمتعصبي المذاهب، فهم إنما يذمون من نفس الجهة إذ جعلوا الوسيلة غاية، فقدموا قول غير المعصوم على قول المعصوم.
ويواصل شيخ الإسلام، رحمه الله، فيقول:
"وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل، بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ، فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل من هؤلاء ما قاله، بل جمهورهم، وهو الشاهد، لا يأمرون العامي بتقليد شخص معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله، والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة، فمن تمام العصمة أن يجعل عددا من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل، كبعض المسائل التي أوردها، أي صاحب "منهاج الكرامة"، كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا. وأما خطأ بعضهم في بعض الدين، فقد قدمنا غير مرة أن هذا لا يضر، كخطأ بعض المسلمين". اهـ
بتصرف من "منهاج السنة"، (3/ 407_409).
وهو كلام غاية في النفاسة، يظهر فيه أهمية عصمة هذه الأمة، فهي "عصمة مجموع"، لا "عصمة جميع"، فإن أخطأ الواحد ردته الجماعة، وبذا امتازت هذه الأمة عن بقية الأمم، وامتاز أهل السنة عن بقية الفرق، ففي غيرهم وجد الباطل الذي لم يرد، وعندهم ما من باطل إلا وتصدى للرد عليه طائفة من أهل العلم، فالحمد والمنة لله على ذلك.
فالمتعصبة، كما تقدم، أعطوا الفرصة لمخالفي أهل السنة، بل وأعطوها لطائفة من أهل السنة، كان رد فعلها عكسيا لما لمسته من جمودهم، فأهدرت أقوال المذاهب جملة وتفصيلا، وهم "الظاهرية"، رحمهم الله، وعلى رأسهم الإمام العلم، سلطان الأندلس غير المتوج: ابن حزم، رحمه الله، المتوفى سنة 456 هـ، إذ نهج نهجا معاكسا لنهج متعصبة المذاهب، فاعتمد فقهه بشكل رئيسي على ظواهر النصوص، حتى أنكر القياس، فكان إفراطه في الطرف المقابل لإفراط أولئك، والحق، كما تقدم، وسط بينهما.
وجدير بالذكر أن دعوى غلق باب الاجتهاد لم تقتصر على الفقه فقط، بل تعدته إلى علوم أخرى، كعلم الحديث، إذ نجد أبا عمرو بن الصلاح، رحمه الله، المتوفى سنة 643 هـ، صاحب المقدمة الشهيرة في علوم المصطلح، يقول بغلق باب الاجتهاد في تصحيح الأحاديث، على تفصيل ليس هذا موضعه، وهي دعوى ردها من جاء بعده كالنووي والحافظ العراقي، رحمهما الله، ومن المعاصرين، الشيخ العلامة محدث الديار المصرية، السيد أحمد شاكر، رحمه الله، كما في حاشيته الشهيرة "الباعث الحثيث"، على "مختصر علوم الحديث" لابن كثير، رحمه الله، مع أن ابن الصلاح ما قصد الحجر على اجتهادات المتأخرين، بقدر ما قصد تقنين هذا الأمر، لما رأى الفوضى العلمية قد تفشت في زمانه، فكيف لو كان ابن الصلاح، رحمه الله، في زماننا؟!!!!.
والموضوع ثري يستحق إفراده بالبحث والمناقشة.
والله أعلى وأعلم.
¥