وفي الحديث ((إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))
فالمادة واحدة وهي الحكمة النبوية، واختلف قبول المادة باختلاف المعادن.
إنك عندما تقرأ كلام أهل العلم فالحقيقة أنك تقرأ ما تريد أن تفهمه بناء على ما عندك من مقدمات ومعلومات.
والقليل منا من يفهم ما يقرأ، لماذا؟
لأن هذا يحتاج إلى تجرد وإنصاف شديدين، وعدم الوقوع في أسر الخاطر الأول وبادئ الرأي، ويحتاج إلى علم واسع بالقرائن، ويحتاج إلى معرفة كبيرة باللغة وخاصة لغة من تقرأ له، ويحتاج في بعض الأحيان إلى معرفة حقبة هذا العالم وتاريخه.
قد يقول قائل: (إن كلامَك خطأ؛ لأن هذه المعرفة التي تَشترِط وجودَها إنما يتحصل عليها المرءُ أصلا من القراءة والمطالعة، وهذه القراءةُ والمطالعة تحتاج إلى مثل هذه المعرفة أيضا، وهذا دور أو تسلسل، وهو باطل).
فالجواب: أن هذا الاعتراض صحيح وهو يفيد التسلسل حقا، ولكن قطع السلسلة يحل الإشكال، وبيان ذلك بما يلي:
نفترض أن العالم في ابتداء طلبه للعلم اليوم، وهذا أول شيء يسمعه من أول شيخ يتلقى عنه، فحينئذ تأتي المعلومة إلى القلب بسهولة، فتدخل إليه بغير استئذان، فلا تجد لها معارضا ولا مناوئا، ولكن هل هذه المعلومة صحيحة أو خاطئة؟ محل نظر.
ثم تأتي معلومة أخرى فإما أن تؤيد المعلومةَ السابقة، أو تخالفها، أو لا تؤيدها ولا تخالفها.
ثم تأتي معلومة ثالثة فتُعرض على كلٍّ من المعلومات السابقة فتزيد بعضها قوة وتزيد بعضها ضعفا، وتترك بعضها كما هو.
ومع تكاثر هذه المعلومات وتواترها على القلب يحصُل لديه يقينٌ ببعض هذه المعلومات بحيث لا يمكن أن يداخله فيها شك، كمثل اليقين الذي يدخل إلى قلب الإمام مالك أن ابن عمر رضي الله عنه كان موجودا، وكان من الصحابة، لكثرة ما سمع من النقول عنه والقرائن التي تفيد ذلك.
وهذا القدر من المعلومات يكون هو الأساس الذي يبني عليه العالمُ صحةَ المعلومات الأخرى أو خطأها، وهذا يشبه ما يفعله المحدثون حينما يحكمون على خطأ هذا أو ذاك بناء على الرواة الأثبات الذين تدور عليهم الرواية؛ لأن هؤلاء الرواة صاروا بالمحل الموثوق.
ومع الوقت والممارسة والمرانة والبحث والفحص والتمرس، يصير الأمر المشكوكُ فيه عندك أمرًا يقينيا عند هذا العالم، ويصير الحكمُ الذي تستغرقُ أنت ساعةً في فهمِه أمرا بَدَهِيًّا عند هذا العالم، بل تصيرُ له أحيانا ملكةٌ يميز بها بين صحيح العلم وسقيمه بغير أن يقدِر على التعبير عن حجته!! كالأعرابي الذي يتكلم ولا يلحن، بل لا يستطيع أن يلحن!
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أعلم الناس (أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس) فعبر عن العلم بالبصيرة، وهذه البصيرة هي الملكة أو السليقة أو النور الذي يعلَق بالقلب من كثرة ممارسة العلم والدربة عليه، مع صدق القصد وإخلاص النية.
أسأل الله أن يوفقنا للفهم والعلم والعمل، وأن يستعملنا في طاعته.
إنه على كل شيء قدير.
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
ـ[ايام العمر]ــــــــ[22 - 12 - 2006, 11:17 ص]ـ
جزاك الله خيرا وبارك فيك
.
أسأل الله أن يوفقنا للفهم والعلم والعمل، وأن يستعملنا في طاعته.
إنه على كل شيء قدير.
آمين
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[31 - 08 - 2007, 03:48 م]ـ
كتبت الموضوع في ملتقى أهل الحديث، فسأل بعض الإخوة:
عن وسائل يستعين بها المتفقه في تفهم كلام العرب خصوصاً عصور الاستشهاد.
فقلت:
الأمر ليس سهلا، بل هو في غاية الصعوبة، وأخوكم الضعيف ليس استثناء في هذا الأمر.
ولكن الموفق من وفقه الله، والمهدي من هداه الله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وجماع الأمر - فيما أحسب والله تعالى أعلم - أن ننظر إلى الاختلافات بين أهل العلم، فأنا أزعم أن أكثر هذه الاختلافات هي اختلافات في الفهم، وليست اختلافات في الجهل ببعض النصوص.
¥