وأما ما قاله عند موته، خصوصا في شأن الحث عل الكتاب والسنة، والندم على ما صدر منه من الرأي، فقد روى الإمام ابن عبد البر بسنده إلى إسماعيل بن أبى أويس قال: اشتكى مالك بن أنس، فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت، قالوا: تشهّد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد،
وعن بكر بن سليم الصواف قال: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها، فقلنا له: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟، قال: ما أدرى ما أقول لكم،إلا أنكم ستعاينون غدا من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب، قال: ثم مابرحنا حتى أغمضناه رحمه الله،
وحكى الحميدى في كتاب جذوة المقتبس، قال: حدثني القعنبى، قال: دخلت على مالك بن أنس رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه ثم جلست، فرأيته يبكى، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟، فقال: يا ابن قعنب ومالي لا أبكى؟، ومن أحق بالبكاء منى؟ والله لوددت أنى ضربت بكل مسألة أفتيت برأي فيها بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال،ا. ه،
وفي رواية: فقلت له: ارجع عن ذلك، فقال: كيف لي بذلك وفقد سارت به الركبان، وأنا على ما ترون؟ فلم نخرج من عنده حتى أغمضناه، ا. ه
وهذا الذي صدر منه عند وفاته هو الذي كان عليه في غالب حياته، فقد روى ابن عبد البر بسنده إلى معن بن عيسى قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب، فانظروا في رأى، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل مالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه،
وروى أيضا بسنده إلى مطرف، قال: سمعت مالكا يقول لابن هرمز: لا تمسك على شيء مما سمعت منى من هذا الرأي، إنما افتجرته أنا وربيعة، فلا تمسك به،ا. ه،
وأما راوي الموطأ يحي المشهور فهو يحي بن يحي بن كثير بن وسلاس، بكسر الواو، وسينين مهملتين، الأولى ساكنة، وبينهما لام ألف، ويزاد فيه نون، فيقال فيه: وسلاوسن، ومعناه بالعربية، (يسبقهم) الليثى مولاهم الأندلسي أبو محمد، أسلم جده وسلاوسن على يد يزيد بن عامر الليثى، ليث كنانة، فنسب أولاده الى ليث بهذا، وقيل: أصله من البربر، من قبيلة يقال لها: مصمودة، وتولى بنى ليث حج يحي بن يحي مرتين، الأولى لقي فيها مالكا في السنة التي توفى فيها، سنة تسع وسبعين ومائة، وسمع منه الموطأ، قيل: بقى منه كتاب أو كتابان، فسمع ذلك من زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون عن مالك، كذا ذكره ابن الأكفهانى، وذكر غيره أن يحي الليثى شك في أبواب من أبواب الاعتكاف، وهى باب خروج المعتكف إلى العيد، وباب قضائه للاعتكاف، وباب النكاح في الاعتكاف، هل سمع ذلك من مالك أم لا، فأخذه عن زياد شبطون عن مالك، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها، رواية يحي بن يحي المذكور،
وسمع يحي بن يحي من سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وجماعة، وحدث به جماعة آخرهم خاتمة أصحابه ابنه عبيد الله بن يحي، وقد أخذ عليه في روايته الموطأ،
وفي حديث الليثى أوهام نقلت عنه، وكلّم فيها فلم يغير ما في كتابه، وتبعه الرواة عنه، وأما ابن وضاح فانه أصلحها، ورواها عنه الناس،
وكان مالك يسميه عاقل الأندلس، وكان سبب ذلك فيما روى أنه كان في مجلس بمجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه، ولم يخرج يحي، فقال له مالك: لم لا تخرج فتراه، لأنه لا يكون بالأندلس؟، فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجيء لأنظر الفيل، فأعجب مالك به، وسماه عاقل أهل الأندلس، ثم عاد إلى الأندلس،
قال أحمد بن خالد: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة، وعظم القدر، وجلالة الذكر، ما أعطيه يحي بن يحي،
وقال غيره: واليه انتهت الرئاسة بالفقه في الأندلس، وبه انتشر مذهب مالك هناك، وتفقه به خلق،
وقال ابن بشكوال في تاريخه: كان يحي بن يحي صاحب الدعوة،
وقال ابن عبد البر: كان إمام أهل بلده، والمقتدى به فيهم، والمنظور إليه والمعول عليه، وكان ثقة عاقلا حسن الهدى والسمت، وكان يشبه في سمته بسمت مالك بن أنس رحمه الله، وكان لايرى القنوت في الصبح، ولا في سائر الصلوات أخذا بمذهب شيخه الليث في ذلك،
¥