تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

" مَنْ لم يكنْ مهندسًا فلا يدخلُ داري " قالها لطائفةٍ. لأن عقولَ أصحابِ هذا الفنِّ مرتبةٌ تصلحُ للعلومِ الشرعية.

وهناك علمان: علم الهندسة، والطب، أقرب ما يكون للعلوم الشرعية.

ولهذا قال " الشافعيُّ " – رحمه الله -: " نظرتُ في العلوم فإذا أفضلُ العلومِ علمان:

(1) علمُ الأديانِ. (2) علمُ الأبدانِ.

فتأملتُ فإذا علمُ الأبدانِ الذي هو الطب يُنْجِي في الدنيا؛ لأنه يُصْلِحُ أمر البدن فيها.

وإذا بعلمِ الأديانِ يصلحُ البدنَ والروحَ في الدنيا والآخرة.

فآثرتُ علمَ الأديانِ على علمِ الأبدانِ ".

وكان " الشافعيُّ " - رحمه الله - متوجهًا للطبِّ، وكان عنده علمٌ بالطبِّ والفراسةِ، حتى كان موتُه بسببِ تعاطيه بعضَ العلاجاتِ الطبيةِ لقوةِ الحافظةِ.

و " الشافعيُّ " كان مولده سنة خمسين ومئة، ووفاتُه سنة أربعٍ ومئتين، يعني عاش أربعًا وخمسين سنة، فلم يُعَمَّرْ.

وسببُ موته أنه تَعَاطَى بعضَ الأدويةِ؛ لأنه يُحْسِنُ الطبَّ، فَأَثَّرَتْ في دمه، فأصابه نزيفٌ، يعني: أصابَهُ انفجارٌ فماتَ.

وهذا الإمامُ " ابنُ القيِّمِ " – رحمه الله - كان يعتني بالطب والفلك.

وقد شَرّح في كتابه " مفتاح دار السعادة " جِسْمَ الإنسانِ تشريحًا عجيبًا، ذكر الكبدَ ووصْفَها وتشريحها، وطبقاتِ الجلد.

لكن لا يصلح للعالم أن يُشْهِرَ هذه الأشياءَ.

كما ذَكَرَ فيه صورةً للخسوفِ والكسوفِ، وعمليةً حسابيةً هندسيةً من جهةِ الأشكالِ المخروطيَّةِ، وحسابَ القطرِ والزوايا، والزمنِ، حيث إنَّك لو أخذتَ بها تستطيعُ أن تحسبَ وقتَ الكسوفِ والخسوفِ.

فإذًا العلماءُ الربانيونَ الذين هم علماءُ الأمة كان لهم اشتغالٌ ببعضِ هذه العلومِ؛ لأن هذه العلومَ تُورِثُ قُوَّةً في العقلِ.

فمَنْ كان طبيبًا أو مهندسًا أو ما أشبه ذلك، ووُفِّقَ لدراسةِ العلمِ الشرعيِّ فهو من أصحاب الهمم العالية.

على قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِم وتأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المَكارِمُ ()

ومن عجائب " الشافعيِّ " - رحمه الله - أنه كان يتعاطى علمَ الفراسةِ.

والفراسةُ - كما هو معلومٌ - ثلاثةُ أقسامٍ:

(1) فراسةٌ إيمانيةٌ.

(2) وفراسةٌ رياضيةٌ.

(3) وفراسةٌ طبيعيةٌ.

تَعْلَمُونَها في العقيدة ().

والمقصودُ منها الفراسةُ الطبيعيةُ، التي يستدل بها من الشكل، كشكل الوجه، على بعض ما خَفِيَ من الصفات.

يقول مثلاً: هذا عيناه حادتانِ، وهو دليلٌ على قوة الذكاء.

وهذا عيناه باردتانِ، وهو دليلٌ على الغباء.

وهذا مِشْيَتُهُ تدلُّ على أنه مستعجلٌ في أموره.

وهذا شكل جبهته تدلُّ على كذا.

يقول هذا عن طريقِ الفراسةِ من دونِ أن يكون قد خالط هؤلاء.

وهذا العلمُ موجودٌ قديمًا في الناس، ومنه ما هو صوابٌ ومنه ما هو غَلَطٌ.

و " الشافعيُّ " – رحمه الله - تعاطاه.

قال: " خَرَجْتُ إلى اليَمَنِ في طلب كتُبِ الفراسةِ، حتى كَتَبْتُها وجَمَعْتُها، ثم لَمَّا حَانَ انْصِرافي، مررتُ على رجلٍ في طريقي، وهو مُحْتَبٍ بِفِنَاءِ دارِه، أزرقُ العينينِ، ناتِئُ الجبهةِ، سِنَاطٌ (). فقلت له: هلْ من مَنْزِلٍ؟ فقال: نعم.

(قال الشافعيُّ): وهذا النعتُ أَخْبَثُ ما يكونُ في الفِراسةِ، فأنْزَلني فرأيْتُ أكْرَمَ رجلٍ. بَعَثَ إليَّ بِعَشَاءٍ وطِيبٍ، وعَلَفٍ لدابَّتِي، وفِراشٍ ولِحافٍ، فجعَلْتُ أَتَقَلَّبُ الليلَ أجمعَ، ما أصْنَعُ بهذه الكُتُبِ؟ إذْ رأيْتُ هذا النعتَ في هذا الرجلِ، فرأيتُ أكرَمَ رجلٍ، فقلت: أَرْمي بهذه الكتبِ.

فلما أْصْبحْتُ قلتُ للغلام: أسْرِجْ، فأسْرَجَ، فَرَكِبْتُ ومررتُ عليه وقلتُ له: إذا قَدِمْتَ مكةَ، ومررتَ بذِي طُوىً () فسلْ عن منْزلِ محمدِ بنِ إدريسَ الشافعيِّ.

فقال لي الرجلُ: أَمَوْلًى لأبيكَ أنا؟! قلتُ: لا.

قالَ: فهلْ كانتْ لك عندي نِعْمَةٌ؟! فقلتُ: لا.

فقال أينَ ما تَكَلَّفْتُ لك البارحةَ؟.

قلت: وما هُوَ؟

قال: اشتريتُ لك طعامًا بدِرْهَمَيْنِ، وإدامًا بكذا، وعِطْرًا بثلاثةِ دراهِمَ وعَلَفًا لدابَّتِكَ. وكِراءُ الفِرَاشِ واللِّحافِ دِرهمانِ.

قال: قلتُ: يا غُلامُ أعطِهِ. فَهَلْ بقي من شيءٍ؟

قال: كِراءُ المنْزلِ، فإنِّي وسَّعْتُ عليك وضَيَّقْتُ على نفسي.

(قال الشافعيُّ) فَغَبَطْتُ نفسي بتلكَ الكُتُبِ.

فقلتُ له بعد ذلك: هل بَقِيَ من شيءٍ؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير