وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين، اجتمع فيه عليهم شدة البرد مع شدة الجوع مع شدة الخوف مع كثرة العدو مع خيانة الذي كان نصيراً .. في يوم الأحزاب الذي وصفه الله - عز وجل - وصفاً عجيباً حيث قال سبحانه وتعالى: " إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا " (الأحزاب: 11).
في ذلك الموقف العصيب وقد اجتمعت قريش وغطفان , ومن منعهم من بعض القبائل والأحابيش , وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم وحاصروها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، يرسل - عليه الصلاة والسلام - السعدين ليستجليا له خبر قريظة،ويقول: فإن كانوا نقضوا العهد فالحنا لي لحناً أعرفه , ولا يعرفه غيري.
فلما بلغه الخبر - عليه الصلاة والسلام - بنقض قريظة للعهد، كان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يُظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً، يوشك أن يسقط على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه .. عندما بلغ بهذا الخبر كبَّر - عليه الصلاة والسلام - وقال: الله أكبر الله أكبر , أبشروا بالنصر ..
في عمق المأساة وفي شدة الكرب، يكبر - عليه الصلاة والسلام - ويجزم بالنصر؟ ولم يكن يعرف له سبباً! ولم يكن يعرف من وحي الله ما سيقع بعد! لكنه رأى أسباب النصر , أمة موحدة لله - عز وجل - ما لانت ولا داهنت في دينها، ولا باعت مبادئها، ولا غيَّرت عهدها مع الله عز وجل .. أمة متوحِّدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد، فقال - عليه الصلاة والسلام -: " أبشروا بالنصر " فجاء نصر الله - عز وجل - من حيث لم يحتسبوا، ولم يشعروا، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار , وتُكفئ القدور، وإذا بأبي سفيان زعيم القوم يُنهض ناقته قائلاً: " يا أهل مكة لا مقام لكم فارجعوا ".
وكفى الله المؤمنين القتال، وبثّ في قلوب الكفار الرعب، وجاء النصر.
وقد يقول قائل: إن هذا الإخبار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة، ولكني أقول: إن هذا ليس على هذا النحو والضرب.
والله إنكم لمنصورون:
وإن كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مسدداً بالوحي، فإن الأمر كان منه نظراً في هذه الأسباب ـ أي أسباب النصر ـ ولذا قد وقع من غير الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية، من جزم بالنصر كما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية في عام (702 هـ) في موقعة (شقحب) عندما تلاقى المسلمون والتتار، إذ كان - رحمة الله عليه - يحرض المؤمنين على القتال، ويحثّهم على الجهاد، ويؤمرهم بالدعاء، ثم يقول: " والله إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة "، فيقولون له: قل: إن شاء الله، فيقول لهم: " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "
سبحان الله! يجزم ويحلف، وإذا قيل له: قل إن شاء الله، يقول: " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "، أي أن ذلك واقع لا محالة , ولكنه بمشيئة الله لا تعليقاً , كأنه لا يشك في نصر الله عز وجل، لمَ جزم شيخ الإسلام بحصول النصر قبل وقوعه، وهو لا يوحى إليه وهو واحد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لأنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة، فعلم أن قوماً قد لجئوا إلى الله - عز وجل - ونابذوا المعاصي، وتوحدت صفوفهم سينصرهم الله عز وجل؛ لأن وعده لا يتخلف .. " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ".
إذاً هذه الومضة - وليست مقصودنا في الحديث - إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرية، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب الإيمانية المعنوية التي فيها وفاء بعهد الله، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى.
الوقفة الثانية: مواقف حاسمة في تاريخ الأمة:
¥