تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية، لا يتوقع لها أن تنهض من كبوتها، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس، لكننا سنجد مما سأضربه من بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة، وذلك يدلنا أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم .. لم تنل من عزائمهم .. لم تزعزع من صلتهم وثقتهم بالله عز وجل .. لم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم , وفي مبادئهم , وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم، ولذلك نجد هناك مواقف حاسمة في تاريخ الأمة.

في عام 491 هـ اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها، ودخلوا إلى المسجد الأقصى وقتلوا فيه من المسلمين نحو سبعين ألف نفس، حتى خاضت ركب الخيل في دماء المسلمين .. هزيمة مروِّعة وفظاعة من القتل والوحشية , تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ أنه بعد عامين اثنين فقط، في عام 493 هـ التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى، فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها ..

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن عدة جيشهم كان نحو ثلاثين ألف قتلوا عن بكرة أبيهم ما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم , وجرح بعضهم , وهرب بعضهم، أولئك الذين هزموا ما زال فيهم من أسباب النصر مما هُيئ لمجموعة قليلة منهم بأن يتحققوا بأسباب النصر ارتباطاً بمنهج الله وثباتاً على منهجه، فنصرهم الله - عز وجل - وهم لم تهدأ جراحهم بعد، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة.

اندحار بعد عامين:

وفي عام 656 هـ وسيأتي حديثنا عن هذه مفصلاً عندما دخلت جيوش التتار بغداد - ونعلم سيرة التتار وقصصهم , وما عندهم من الفظاعة والهول - ثم بعد عامين اثنين مرة أخرى، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام 658 هـ تأتي موقعة عين جالوت، ويُكسر فيها التتار .. الجيش الذي لا يقهر كما يقال .. الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس .. يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل، لماذا لأن بعض الأسباب قد تحققت.

الثأر لدماء لم تجف:

وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب أحد، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة، ومضى منهم إلى الله - عز وجل - سبعون من الشهداء وأثخن البقية بالجراح، وشُجَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المِغْفَر في وجنته عليه الصلاة والسلام، ثم رجعوا إلى المدينة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا، بأي شيء؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا ما وقع بهم؟ أمرهم وطلب منهم أن يخرجوا ليلحقوا بجيش المشركين بأبي سفيان , ومن معهم من أهل قريش .. أولئك القوم الذين جراحهم ما تزال تنزف دماء , وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة، وأمر أن لا يخرج معهم أحد أبداًً ممن لم يشهد أحداً، فماذا كان موقف الصحابة ما تخلف منهم رجل واحد .. " الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " (173) آل عمران.

خرجوا ما تخلف منهم رجل واحد، لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتُضْعِفُه، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي، وهممهم أعلى من ذرى السحاب، ولذلك استجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما اعتبروا مهزومين، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام بلياليها، فلما أراد أبو سفيان - بعد أن مضى - أن يرجع إلى المدينة، ويتتبع جراحات المسلمين، قال: " ما بلغنا من القوم مبلغاً .. ما قتلنا محمدا صلى الله عليه وسلم، ولا قتلنا أبا بكر، ولا عمر، ولا استأصلنا شأفتهم، ولا غزونا مدينتهم .. "، وكان يفكر بالرجوع، فإذا به بأحد الأعراب، فسأله: ما خبر محمد؟ فقال رأيته هو وأصحابه يجد في أثركم، فلاذ أبو سفيان بالفرار

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير