لم يكن هذا ضعفاً في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , ولكنه صفة كمال , لأنه قدوة للأجيال ومضرب الأمثال.
عندما تتحدث المشاعر والخواطر يصعب أن يكبتها الإنسان , والعاقل هو الذي يستطيع توجيه ذلك وليس كبته , الكبت ليس حلاً في كل الأحوال بل هو عجز أحياناً , وإنما العقل هو حسن استخدام تلك العاطفة.
يقرأ الناس أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذات يوم رقى المنبر , وألقى خطبة على أصحابه , وبينما هو يتحدث على أصحابه , وهو إمام الأمة , وأصحابه فرسان الجيوش , في زمن كانت المعارك قائمة بين المسلمين والكفار , فجأة يدخل أحفاده الصغار في المسجد , ويتعثروا في المشي , وهنا تتوقف الخطبة , ويتوقف الحديث مع أعظم بشر عرفهم التاريخ بعد الأنبياء , وينزل النبي لأبناء ابنته ليأخذ بأيديهم , كان بإمكانه الإشارة لأحد الصحابة أن يحملوا الأطفال ويذهبوا بهم لأمهاتهم , كان بإمكان أولئك العرب الأقحاح أن ينكروا ولوا بلطف في ترك الحديث معهم والنزول للأطفال الصغار, ولكن الرحمة والشفقة معنى أكبر من ذلك , والموقف صادر من نبي يربي أصحابه على حب الصغير والشفقة والرحمة به حتى في أحلك المواقف وأصعبها.
وإذا ولجنا من باب الفقهاء والوعاظ , فإذا فرضنا أن خطيباً حاول أن يتأسى برسول الله عليه السلام , وحاول أن يقطع الخطبة من أجل أبنائه , فسوف تقوم الدنيا عليه ولن يسكت الناس حتى يعزلوه من منصبه , فكيف يحتقر مكانتهم وقدرهم وينصرف عن الحديث معهم , ويتركهم لبضع ثواني ليراقب أطفاله وأبنائه , وماذا لو كان هذا الإمام في مسجدٍ تنقل صلاته عبر الشاشات والإذاعات .. !!.
حسناً ربما كان الحل سهلاً , وهو أن النبي الكريم عندما فعل ذلك لم يكن من باب العناد لأصحابه , ولا من باب المعاملة التي لا يعرفون , فهم يعرفون رحمته وشفقته , يعرفون حبه وصدقه معهم , وأما نحن اليوم فنحتاج لئن نربي الأمة وجمهور الناس على الحب والشفقة , تربيهم على السمو في الأخلاق والمعاملات , وبحاجة أن نُعوِّد الخطيب على الرحمة والشفقة , وليس مجرد التأسي بالفعل مع خلو القلب من تلك الرحمة والشفقة بأهله أولاً ثم أمته وأهل مسجده.
ولقد أخبرنا ربنا بقوله مثلاً: (حدائق ذات بهجة) فهذه الألوان المتناسقة , والأغصان المتمايلة , والزهور الناعمة شيء عظيم يبعث شعورا خفيا في الروح , يحس المرء معه بنشوة غريبة , فإذا رأيت من يقول لك إنها ليست باعثة على البهجة والسرور (بالنسبة له) , فاعلم أنه إما كاذب أو جاحد لنعمة الله تعالى أو مكابر معاند , والمكابرة مرض أصاب إبليس فطرده الله من الجنة.
وليست العبرة بنقول من بطون الكتب عن أناس لم يحسوا بالجمال المودع في الكون , لقد ظلموا أنفسهم وغيرهم بدعواهم عدم وجودهم المتعة للروح والنفس والجسد في جنبات الأرض والكون , وهم عندما انعزلوا عن النظر الباعث على البهجة والسرور وقعوا في محظور لم يتفطنوا له.
فإظهار الضعف البشري مطلب أمام قوة الخالق العظيم.
وإظهار البهجة والفرح بهدايا الملك خير من تركها أو وردها.
ورفض هدايا الملك ودعوى عدم روعتها أو حبها كبر وغرور وجريمة تستحق العقاب , والتمتع بالملذات في غير ما حرمه الملك العظيم خير من دعوى عدم إثارتها للمشاعر.
إنه يشابه إبليس في رفضه للسجود في قوله عن آدم: (أنا خير منه) فغرور إبليس جعله يرفض الخضوع للمشيئة الإلهية , وهذا الرافض التمتع بجمال الكون كأنه يقول لربه إن أنهارك وأشجارك وطيورك التي خلقت لا تحرك في مشاعري شيئاً , ولن أسمح لنفسي أن تلهو وتحلق وتنتشي في هذا الجمال , لأنه للفارغين فقط وليس للباحثين عن الكمال الذي نحن أهله , كأنهم يقولون إن ضعفنا لن يظهر أمام جميل خلقك ,لقد بلغ طغيان الفلاسفة أن جعلوا قضية الجنة والنار خطاب للعامة فقط وليس لأصحاب العقول أمثالهم , ثم زعم بعدهم أناس أن إحساس الجمال والتمتع به إنما يكون للفارغين والعامة من الناس.
هكذا هي خطوات الشيطان تحاول دائماً تحدي قوة الرب , وهكذا الإنسان الذي أعجبته نفسه يحاول أحياناً أن يكون ملكاً للكون ويلغي ضعفه وعجزه وفقره.
ربما ألبسها بعضهم ستاراً دينياً فزعموا أن النظر في الجمال المودع في الكون لا يليق بعاقل تعلق بحب الله , وهكذا توصلوا لدعواهم بذريعة يقبلها العامة.
¥