تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالنجاة والأمور العظيمة والمنازل العالية يقوم اللسان بدور هام في جلبها وإسعاد العبد، أو في تضييعها وجلب الشقاء للعبد – نعوذ بالله من الخذلان - وقلما تجد حديثاً يتعلق بالنجاة أو الخسران يوم القيامة إلا وفيه ذكر للسان أو أفعاله وما يترتب عليها، والأحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومن أشهرها حديث المفلس؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» [23].

فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بآفات اللسان في بيان ما هدم الأعمال الصالحة وأضاع الصلاة والزكاة ... وغيرها من أعمال البر، وجعل كثيراً من تعب صاحبها في الدنيا هباءً منثوراً يوم الحساب، فقال: «وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا» فنسأل الله العافية.

واللسان لا يكل ولا يمل، وفي أثناء هذا يحصد الخيرات أو يجلب على صاحبه النقمة والحسرات، ولا يتحرك في الإنسان عضو كحركة اللسان، قال ابن القيم: «حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة بل لا يمكنه ذلك» [24].

وقال في موضع آخر: «حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيراً في الخير والشر والصلاح والفساد؛ بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان» [25].

وقال - رحمه الله - في موضع ثالث: «وأيسر حركات الجوارح حركة اللسان، وهي أضرها على العبد ... والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أسيره. والله عند لسان كل قائل، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وفي اللسان آفتان عظيمتان إن خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام وآفة السكوت. وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن (إذا لم يخف على نفسه) والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله.

وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم كُفُّوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا يرى أحدهم أنه يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله - عز وجل - وما اتصل به» [26].

ويكمن جانب كبير من خطورة عدم تعاهد اللسان والتفقه في استقامته في أن الخسارة بسببه قد تكون مردية، وقد لا تترتب على كلام كثير، بل على كلمة ممن لا يَعُدُّ كلامه من عمله، ولا يحاسب نفسه، ولا يتفكر فيما يقول؛ فيهوي صاحب هذه الكلمة في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ وعلى العكس قد يرتفع العبد عند الله وتعلو منزلته بكلمة موفقة، يرضى الله عنه بها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» [27]،

وفي رواية: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» [28].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير