تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرح الحديث: «مَعْنَاهُ لَا يَتَدَبَّرهَا وَيُفَكِّر فِي قُبْحهَا، وَلَا يَخَاف مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا، وَهَذَا كَالْكَلِمَةِ عِنْد السُّلْطَان وَغَيْره مِنْ الْوُلَاة، وَكَالْكَلِمَةِ تُقْذَف، أَوْ مَعْنَاهُ كَالْكَلِمَةِ الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا إِضْرَار مُسْلِم وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّه حَثٌّ عَلَى حِفْظ اللِّسَان، وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ النُّطْق بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلَام أَنْ يَتَدَبَّرهُ فِي نَفْسه قَبْل نُطْقه، فَإِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَته تَكَلَّمَ، وَإِلَّا أَمْسَكَ» [29].

وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: «ولا أعلم خلافاً أن الكلمة المذكورة في هذا الحديث من رضوان الله ومن سخط الله والمعنى في ذلك مما يرضي الله ومما يسخطه: أنها المقولة عند السلطان بالخير فيرضي الله، أو بالشر والباطل فيسخط الله ... وقد فسر ابن عيينة هذا الحديث بمعنى ما أصف لك قال: هي الكلمة عند السلطان الظالم ليرده بها عن ظلمه في إراقة دم أو أخذ مال لمسلم أو ليصرفه عن معصية الله - عز وجل - أو يعزُّ ضعيفاً لا يستطيع بلوغ حاجته عنده ونحو ذلك مما يرضي الله به، وكذلك الكلمة في عونه على الإثم والجور مما يسخط الله به» [30].

وليتفكر المسارعون في أهواء السلاطين في هذا، وليتأملوا قول ابن الجوزي في تفسير هذا الحديث، وفيه: «وهذه الكلمات ليست مما تُعلم عنه، بل لو قال للوالي الجائر: الناس في زمانك في عيش، أو قال عند غيبة المسلم: يسأل الله العافية؛ خفت أن تكون هذه من كلمات الشر التي تُوُعِّد عليها، ولو قال للجائر: إنك مسؤول عن رعيتك؛ رجوت أن تكون من الكلمات التي يرفع بها» [31].

ولعظم تأثير الكلمة عند السلطان رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - شأنها وشأن صاحبها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» [32].

ولا يقوم بهذا الجهاد والصدع بالحق إلا العلماء الربانيون، وليس للمتلونين في دين الله أو المداهنين منه نصيب، بل هم كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر أنَّه قيل له: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلَافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقاً [33].

وفي رواية: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عُمَرَ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ لأُمَرِائِكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: نَقُولُ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، قَالَ: فَإِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِهِمْ، مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: نَقُولُ مَا لا يَشْتَهُونَ. قَالَ: هَذَا الَّذِي كُنَّا نَعُدُّهُ النِّفَاقَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -[34].

وقد تجد هؤلاء يتورعون عن كثير من المحرمات الظاهرة، ولكن محرمات اللسان سهلة عليهم، حبيبة لقلوبهم، وهذا ما أثار عجب الإمام ابن القيم - رحمه الله - فقال: (ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول!) [35].

وهذا ولا شك من قلة الورع أو ضعفه، أما المتورعون بحق ابتغاء مرضاة الله - تعالى - فشأنهم غير هذا، ولكي نعلم أثر الورع في استقامة اللسان وحفظه عن الكلام بما لا يرضي الله، وعن القول بغير علم، فلنتأمل قول عائشة - رضي الله عنها - في حديثها الطويل في قصة الإفك، وفيه: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ! مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي: وَاللَّهِ! مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْراً. قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي. فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ» [36].

نعم! الورع يعصم وينفع في المحن والشدائد ... «فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير