تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولما ضعف الورع؛ انفلت زمام اللسان، فتكلم من يعلم ومن لا يعلم، وتكلم الكثيرون بالظن، ونقَّبوا عن قلوب الفضلاء وسولت لهم أنفسهم المريضة ما يشتهون، فقالوا وقالوا، وظنوا أن بنيانهم المتداعي سيقوم على أنقاض المخلصين الثابتين على الحق، ولكنها السنن، وسيرى المفترون سوء أعمالهم، وتَهدُّم بنيانهم. قال وهيب بن الورد: «إذا أردت البناء فأسسه على ثلاث: على الزهد، والورع، والنية؛ فإنك إن أسسته على غير هؤلاء انهدم البناء» [37].

وقال الضحاك بن مزاحم: «أدركت الناس [38] وهم يتعلمون الورع، وهم اليوم يتعلمون الكلام» [39].

وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «أشد الورع في اللسان» [40].

وسئل ابن المبارك: أي الورع أشد؟ قال: «اللسان» [41].

ولما فقه السلف هذه النصوص، ووعتها قلوبهم، استقامت لهم ألسنتهم، وجعلوا استقامة اللسان مؤشراً قوياً على استقامة صاحبه، وكانوا يرون أن من استقام لسانه كانت أعماله كلها على السداد، وأحوالهم وأقوالهم التي تبين هذا كثيرة، نذكر بعضاً منها:

فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «اللسان قِوام البدن؛ فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم يقم له جارحة» [42].

وعن يونس بن عبيد - رحمه الله - قال: «لا تجد شيئاً من البر يتبعه البر كله غير اللسان؛ فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام ويقوم الليل ويشهد الزور بالنهار، وذكر أشياء نحو هذا ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبداً» [43].

وقال أيضاً: «ما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله» [44].

وعن يحيى بن أبي كثير - رحمه الله - قال: «ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقه إلا عرفت ذلك في سائر عمله» [45].

عن أنس - رضي الله عنه - قال: «إن الرجل ليُحْرَم قيام الليل وصيام النهار بالكذبة يكذبها» [46].

وقال مطر الوراق - رحمه الله -: «خصلتان إذا كانا في عبد، كان سائر عمله تبعاً لهما: حُسْنُ الصلاة وصِدْق الحديث».

وصِدْقُ الحديث من استقامة اللسان، والكذب من اعوجاجه.

وعن يونس بن عبيد قال: «خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما من أمره: صلاته ولسانه» [47].

وكان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يستدل على استقامة الإنسان وصلاحه باستقامة لسانه وحفظه، والعكس؛ فعن سليمان بن كيسان قال: «كان عمر بن عبد العزيز إذا ذُكر عنده رجل بفضل أو صلاح قال: كيف هو إذا ذُكر عنده إخوانه؟ فإن قالوا: إنه ينتقصهم وينال منهم. قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإن قالوا: إنه يذكر منهم جميلاً وخيراً ويُحسن الثناء عليهم. قال: هو كما تقولون إن شاء الله» [48].

وبعد: فقد ظهر جلياً من خلال ما تقدم من أحاديث وآثار مدى التلازم بين استقامة اللسان واستقامة سائر الجوارح، وإذا كان العبد على يقين من سؤال الله له وحسابه على أقواله وأفعاله وأعضائه، كما قال - عز وجل -: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 63].

فجدير به إذا كان يريد لنفسه النجاة أن يتفكر في مدى استقامة لسانه، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها حتى تستقيم، وأن يتفكر في أعماله وأقواله قبل الإقدام عليها.

فرحم الله عبداً كابد نفسه وجاهدها حتى تستقيم له؛ فتثمر له جوارحه الخيرات، وتنشغل بالطاعات.

ولنذكر الضابط في حفظ اللسان حتى نحاسب أنفسنا بمقتضاه ونجاهدها على ذلك:

قال الإمام النووي - رحمه الله -: (اعلم أنه لكل مكلَّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وترْكُه في المصلحة، فالسنَّة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة؛ والسلامة لا يعدلُها شيء.

وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» [49].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير