من ذلك أنه زارني، في ستينيّات القرن الماضي، الكاتب المصري ”عامر العقّاد“ (وهو ابن شقيق عبّاس محمود العقّاد)، فاسترعت انتباهَه ثمارُ الكبّاد متدلّيةً بحجمها ولونها، وسأل، فاستدعى ذكري لكلمة ”الكبّاد“ عنده أبياتًا من الشعر لنزار قباني، راح يُنشدني إيّاها:
ودمشقُ .. أين تكون؟ قلتُ: تَرَيْنَها في شعركِ المنسابِ نهرَ سوادِ
في وجهك العربيّ، في الشعر الذي ما زال مُختزِنًا شُموسَ بلادي
في طِيب ”جَنّاتِ العريف“ ومائها في الفُلّ، في الرَّيْحان، في (الكبّادِ)
ثمّ قال، وقد بدا عليه الارتياح: «إذن، فهذا هو الكبّاد!».
ولم أُفَوِّت الفرصة فحدّثته عن أنّ هذه الشجرة، وكذلك النخيل والرمّان، هي من كثيرٍ ممّا حمل العرب إلى الأندلس.
وقبل سنوات زارني أستاذٌ جامعي من الجزائر، ”إبراهيم صحراوي“. وفي إعجابه البادي في عينيه لما يرى من الكبّاد، حمَِّلتُه اثنتين، فبدا سعيدًا بما سوف يحدَّث أسرته عن كبّاد الشام و ... الأندلس.
وذات يوم، في مطلع العام 2005 تحديدًا، دخلْنا الحديقة، أنا والإعلاميةُ ”ميساء نعامة“ وفريقُ عمل تلفزيوني، وقد انتهينا من تسجيل ”مقابلةٍ تلفزيونية“ في بيتٍ بضاحية دمّر، وحرصت الإعلامية المتميِّزة على أن تصوّر ”ضيفَها“ وهو ”متلبِّسٌ في لحظة دخول“ إلى حديقة بيته، وكان الكبّاد في عزّ موسمه. فجأةً افتقدْنا بيننا أحدَهم، كان قد انفصل عنّا عند الدخول، وأسرع إلى كبّادةٍ دانية، فقطفها، وأَنشب فيها أظفاره، واحتَزَّ، وأكل، ثمّ رأيناه ينحني ليَمُجّ ... ذلك أنّ اللبّ ما كان ليؤكل لفرط حُمُوضته، وكان قد ظنّه صنفًا من البرتقال!
” انتفاضة“ الكبّاد:
تحت أشجار الكبّاد أجلس، وعلى طاولة في ظلّها أكتب ... وإذن، فإنه يُتَوقَّع أن يوحي لي الشَّجَرُ والزَّهَرُ والثَّمَرُ بما هو وثيق الصلة بالكبّاد.
وكذلك، فقد نظرت يومًا إلى ثمراته، هذه التي أقوم بقطفها وتوزيعها على الأصحاب، وأشرح لبعضهم الطريقةَ التي يُصنع بها المربّى: تُبشَر الكبّادة أولاً بالمِبشرة، لإزالة تلك الطبقة الصفراء الرقيقة من السطح الجَعْد حتى تبدو الثمرة عاريةً في ”لحمها“ الأبيض. تتناولُ، أيها الصديق، ”سكين المطبخ“، تُقطِّع القشر ”حُزُوزًا“. تنزع اللبّ ليُعصَر حمضا. تَنقَع القشور بالماء العذب يومين كي تتخلّص من المرارة. تسلقه في ماء بدرجة الغليان ... وبعدئذ تغمره بالقطر (السّكّر المعقود)، وبالشوكة تأكله هنيئًا مريئا!
هذا الشرح المفصّل لِما يُمارَس في حقّ الكبّادة، المسكينة، أَوحى إليّ بقصة، تخيَّلتُ فيها على نحوِ ما يتخيّل كاتب: الثمار تحتجّ، تتمرّد، تثور! وهي تتفاهم فيما بينها بلغةٍ ”نباتيّة“ ما، وهي أيضًا تُصغي إلى حديث البشر وتستوعبه، ولكنها عاجزةٌ عن أن ”توصِل“ صوتَها، لغتَها، إليهم. والأمّ -أعني شجرةَ الكبّاد- تحاول عبثًا ”التهدئة“، ثمّ يُفلَتُ الزمام من يدها. وتُعلنها ثمارُ الكبّاد ”انتفاضةً“، ضدّ القطف، والبَشْر، والتقطيع، والسلق، وأخيرًا الشكّ بالشوكة للأكل، الذي يريدونه -هم- هنيئًا. وتتضافر شجرات الكبّاد في تلك الحديقة المنزلية، ويُقَرِّرنَ ... أن يجعلنَ النّسْغ، الذي يسري في العروق، علقما! http://albahethon.com/photo/19.JPG
يوم تلقّتْ تلك المجلةُ العربية هذه القصة، ”كبّاد الموسم الجديد“، عجبوا، ودفعهم العجبُ إلى أن يتريّثوا في تقديمها للنشر. رأَوها -كما نُمي إليّ- «قصةً تنحو نحو ”المقالة“»! فقال لهم القائل هناك: «أعيدوا قراءتها، إنّ فيها بُعْدًا ثالثا!». لمّا هتفت إليهم لأُناقشهم الرأي، قالوا: «لا حاجة للنقاش، إنها في ”الصفّ“ (في التنضيد)!».
هل أفلحت القصة في أن تقول ما تريد؟
صاحب الحديقة كان يجوس دروبَها في ليلة قمراء. تلقّطت أذناه حفيفًا، أَوشك أن يكون همسًا، جعله يتوقّف، ويُصيخ السمع ... ونقول الحكاية إنه بدأ يفهم ”لغة الكبّاد“، وأنّ حُبًّا للنبات حقيقيًّا، أنّ ”نزعةً نباتيّة“ طيّبة، بدأت تظهر في أحاديثه.
ولا أظنني أغتنم فرصةً ليست لي، إذا ما بيّنتُ أنّ هذه القصة واحدةٌ من عشرٍ ضمَّهنّ كتابي ”تقول الحكاية“.
• ويألف الكبّادُ البيوتَ:
ممّا ذكر أبو حنيفة الدِّينَوَري: أنّ الأُترجّ «كثيرٌ في أرض العرب، وهو ممّا يُغرَس غرسًا، ولا يكون برِّيًّا».
لا يكون بريًّا؟! أجل ...
حدّثتْني الفنانة التشكيلية ”ريما بطرس“، أنّ بعض ذويها في مدينتها ”طرطوس“، أرادوا أن يستزرعوا الكبّاد في حقولهم بين أشجار البرتقال والليمون، فما أثمر ولا أنجب، مع العناية الزائدة التي أَملتْها عليهم رغبتُهم في أن يقطفوا الكبّاد بأيديهم من شجرهم ولا يستجلبونه من المحافظات الأخرى! فتأكّد لي أنّ زهره، المرهفَ والعزيز، لا يناسبه الهواء الطَّلْق، بَتَلاتُه تتساقط قبل أن يَعْقِد زهرُه. حدائقُ البيوت مَوْئلُه المفضّل، يألفها أُلفةَ اليمام للحدائق المنزليّة.
ذكرت اليمام ثانيةً، هذا الذي يبني أعشاشه في أغصان الكبّاد عندي، وأراه يخطر أمامي في أرض الحديقة آمنًا مطمئنّا. إنّ عندي في ذلك ما أقوله في حديث آتٍ، إنْ طاب لكم حديثي عن الكبّاد. سلام.
للكاتب / فاضل السباعي جزاه الله خيرا وأسكنه الله جناته / موقع الباحثون فكرية علمية ثقافية شهرية
والله الموفق