تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكن اليمانيين ممثلين في قضاعة (أكبر قوة عسكرية قحطانية) بدلاً من الثورة الواعية الواقعية ضد هذا المد الأعجمي التجؤوا إلى الثورة الوهمية؛ فيحدثنا الخليفة المأمون عن فكر عجيب كانت قضاعة مؤمنةً به كل الإيمان فيقول جواباً على الرجل الذي سأله أن ينصف عرب الشام كما أنصف عجم خراسان: ( ... أمَّا قضاعة؛ فسادَتُها ينتظرون السُّفيانيَّ وخروجَه؛ فتكون من أشياعه ... !) [انظر تاريخ الطبري: 8/ 652 / ط المعارف = 5/ 198 / ط دار الكتب العلمية)، في مقابل قضاعة كان العلويون (كفلة أبي الطيب في يتمه) أيضاً وبعد صدمتهم الكبيرة بالعباسيين وحيلهم السياسية قد التجؤوا إلى نفس الغفوة العقائدية للهروب من واقعهم المرير؛ فتمسَّكوا بفكرة الغائب المنتظر القابع في سرداب سامراء.

في ظلال هذا الفكر المتخاذل نشأ أبو الطيب بكل عنفوانه وثوريته وإيمانه أن الإنسان مكلَّف بتغيير الواقع السلبي الذي يفرض عليه بنشاطه الشخصي وتحركه الفاعل البنَّاء غيرَ مسترخٍ للأحلام المهدهدة التي تهز له مهد الواقع المزري.

وعلى أساس ذلك قام أبو الطيب بثورته ضد هذه الأفكار التي حطمت الأمة وأجهزت على ما تبقى عند أبنائها من صحوة وشهامة ونخوة؛ فكان أول المحاربين لقضية التمايز القبلي بين الناس وأحد أشهر الدعاة إلى الانتماء إلى الذات قبل الانتماء إلى الأجداد متمثلاً قول الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسائلون} وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " من أبطا به عملُه لم يُسرِع به نسبُه " ومستشفًّا المعنى الفذ الذي عبَّر عنه أبو العتاهية في قوله:

كن ابنَ مَن شئتَ واكتسب أدباً ** يغنيكَ محمودُه عن النَّسَبِ

إنَّ الفتى مَن قال ها أنا ذا ** ليس الفتى مَن قال كان أبي

ولم يزل أبو الطيب يحارب تلك الأفكار الهدامة طوال حياته حتى شنَّ غارتَه الكبرى على معتقد الغائب المنتظر في عقر دار أبناء الأعاجم فأنشد ابنَ العميد قصيدتَه (نسيت وما أنسى عتاباً على الصدِّ) في أصبهان (عاصمة التشيع) مودِّعاً إياه وهو يتجه إلى مصيدة عضد الدولة، فقال في تلك القصيدة العصماء:

فإن يكن المهديُّ مَن بان هديُه ** فهذا وإلَّا فالهدى ذا؛ فما المَهدي؟!

يعلِّلنا هذا الزمانُ بذا الوعدِ ** ويخدع عمَّا في يديه من النَّقْدِ

هل الخيرُ شيءٌ ليس بالخير غائبٌ ** أم الرُّشْدُ أمرٌ غائبٌ ليس بالرُّشْدِ!!

فانظر إلى هذا القصف الفتاك لذلك المعتقد الهدام في عقر داره، وبالمناسبة أقول: إني على يقين بأن هذه الأبيات الثلاثة هي التي أدَّت إلى مصرع أبي الطيب على يدي عضد الدولة (حارس التشيع والمستفيد الأكبر من ثمار بثِّ عثيدة الغائب المنتظر بين صفوف العوامِّ) في مسرحية كان بطلها فاتك الأسدي، ولهذا الموضوع موضع بسطٍ ليس هذا مقامُه!

لا أدري في الحقيقة إن كان للموضوع بقية أضيفها أم لا؛ فسأنتظر معكم ما يجود به الغيم!!

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير