المواقع لذا كَثُرَ الأعداءُ مِن حَولِه, ولا شك أن مدح الشاعر لنفسه أتى مٌغلفا بأسلوب الرمز ـ بطريق غير مباشر ـ فهو فخر ضمني بالذات, لذا يتسرب إلى روحنا عذبا رقراقا, دون أن نشعرَ بأنه مدح ظاهر الفحش بالنفس, وهذا يدل على تمكن الشاعر من أساليبه وقدرته على عرض المعاني بأرقى الأساليب مما يعكس لنا شخصا راقيا من الطراز الأول.
9 ـ وكل المصابيح
10 ـ قد أطفأتها الرياح
يستمر الشاعر في عرض معاناته التي يُعانيها وفي ذكر متاعبه أمام محبوبته مُثيرا عاطفة الرحمة فيها , فربما يكون هذا الأسلوب هو السبيل للفوز بقلبها لكي تعرف حجم معاناة هذا الشخص ذو الأهداف النبيلة في الحياة لكي يُرسخ في نفسها علو مقامِه وقدرته على التحمل في سبيل أمجاده, قائلا أن كل المصابيح التي كانت تنير دَربه ليستمرَ في هذه الحياةِ خَفتت بل انطفأتْ بفعلِ الرياح وهذهِ الصورة المستمدة من الطبيعة ـ الرياح ـ توحي لنا بأن السبب الرئيسي في خفوت بريق الأضواء التي كانت في حياته عوامل خارجة عن إرادته ليس لهُ يد فيها, بل هي الرياح العاتية الشديدة الهوجاء التي تعبث بكل الأشياء وقد عبثتْ بشاعرنا فهاجتْ عليه بأعاصيرها, ولم يبق لهُ نورا يمشي به سِواها!!
11 ـ وكل المسافات تُفضي إلى الوهم ِ
12ـ والمستحيل
إن كل المسافات التي يقطعها بكل جهد يكتشف أنها تؤدي إلى الوهم وليس إلى تحقيق أحلامه أو نيلها!! إنها مجرد وهم يعيشهُ.
إنّ الأحلام حين تتبخر في لحظة أمامَ مَن سعى لها سعيا حثيثا تُضحِي مُستحيلا ووهما.
يا لها من حقيقة مُرة يُعّريها الشاعر أمامَ نفسه ومحبوبته. حيثُ يبوح لها بأسباب معاناته في حياته ومبعث آلامه.
وهل بين المحبين حواجز!!!
إنه يفضي لها لأنها القلب الحنون الذي يحتاجه ليبثَها همومه وينثر أمامَها معاناته ويبوح لها بما يختلجُ في صدرهِ منْ لواعِج ِالشوق ومُكابدة العناء.
ونُلاحظ أنّ ألفاظ الشاعر تحمل معاني القوة والقساوة في التعبير عنْ حاله ممّا يدل على رغبته القوية في إثارة عواطف الحبيبة (مستحيل , وهم)
13 ـ وكل العيون تُحاصرني ....
ما أصعب أن تُحاصرك العيون بنظراتها المستمرة التي ترقُبُ عبرها زلاتك وعثراتك, وربما عيوب بشريتك العادية الطبيعية فتُضَخِمها وتهوّلها. إنه تعبير يدل على رقة روح الشاعر الذي لا يُطيق هذه النظرات الحادة المستمرة التي لا تعرف الغفلة أو البراءة. ويدلُ من جهة أخرى على كم الأعداء الذين ينتظرون هزائمَه وهو الفائز عليهم دوما.
مِن المؤلم أن تفتقدَ حُريتك الشخصية وتشعر في كل أوقاتك أنك مُراقب مِن قلوب ليست خاوية من الحقد والكره ولا الغيرة أو التنافس الغير شريف.
فكيف إن ْ افتقدها شاعر مرهف الشعور, والشعراء هم الباحثون عن الحرية والعدل والسمو والنبل مما لا ريب فيه أن هذا سيكون أشد وقعا وأكثر إيلاما.
مِن جماليات هذا البيت ـ مِن وجهة نظري وقد يُخالفني فيها الآخر ـ أنه لم يخدشْ مشاعرَنا بقسوة ذكر لفظ العداوة أو الأعداء صراحة , وإنما نحنُ نلمح هذا المعنى من أساليب الشاعر مما يؤكدُ في نفوسنا رُقي الشاعر ورُقي أسلوب عرضه لأفكاره ورقي تعامله. فإن عبارة (كل العيون تُحاصرني) هي ممّا لاشك فيه تدل على القلوب الموغلة في الحقد وكلمة حِصار تنم ُ عن هذا المعنى وتؤكده في نفوسنا وتعمقه في أذهاننا.
هو شاعر مَلَكَ أدوات الشعر فجاد بها لنا من معينه الذي لا ينضب.
وشاعرنا رجل يُشار له بالبنان وإلا لمَا كان له هذا الكم من الأعداء.
وجاء الفعل الذي يلي البيت السابق ليؤكد تلك المعاني في نفوسنا حين قال:
14 ـ تقتفيني
ونلاحظُ أنّ مُفردات الشاعر مُفردات مِن مَعين لُغتنا الأصيلة الفصيحة والتي يستمدها من ذخيرتهِ اللُغوية, ومعرفته العميقة بلغته التي يترنم بها في قصائده.
فالعرب تقول: يقتفي أثره, وفي هذا التعبير دلالة عميقة على عداوة الآخرين له الذين باتوا يقتفون حتى آثاره ويسعون للتنقيب ِعنْ كُل ِما يَخْلُفه شاعرنا وكأنهم يلتمسون زلاته وينتظرون سقطاته.
¥