وفي ظل هذه العداوات وهذه المشاعر المختلطة بين الضيق من حلم الحرية المفقود بسبب ترقب الشخوص له, وإحساسه بعدم الأمان, وغياب الراحة. تظهر في سماء حياته هذه المرأة التي وكأنها حلم بعيد النوال خلف أمواج السراب التي لا يقبض عليها ولا يستطيع لها وصولا!
15 ـ وحين رأيتك ِ خلف السراب البعيد ِ
16 ـ قطعت ُ المسافات عدوا إليكِ
17 ـ وقد طال ليلي
لقد رآها كما يرى المُحب محبوبه فتحاصره اللهفة, ويسيطر عليه الشوق, ويتملكه العشق.ولكنها كانت حلما بعيدا كالسراب الذي مهما سارَ لهُ لا يصلُ إليه.
إنّ صورة الصحراء تُوحي بعطش الشاعر للحُب ِكما يحتاج العطشان لبصيص أمل ـ السراب ـ ظنا مِنه أنهُ سيمنحه الروي كما يمنح الحبيب الحُب والأمان والاحتواء, وكفى بالحبِ نبعا للمشاعر الفياضة التي تمنحنا الأمان والراحة والإشباع.
كما أن الشاعر وهو يستمد صورَهُ مِن الصحراءِ يُدلِلُ على أنهُ الرجل العربي الأصيل النسب الذي يشتق أخيلته من بيئته التي ينتمي إليها.
هو يريد أن يؤكد لنا عروبته الأصيلة عبر فخرهِ الضِمني فالشاعر ابن بيئته.
وعلى الرغم من صعوبة القبض على السراب, إلا أن شاعرنا قطع كل المسافات إليها غير مستسلم للواقع الصعب أملا في مستقبل جميل معها بالوصال واللقاء الحقيقي, وكان سيره عدوا ليُعمقَ في نفسها ونفوسنا أنه يسعي بكل جدية وسرعة ليظفرَ بها. إنه عاشق وفِي مُجاهد.
وقد طال ليل الشاعر, والليل رمزٌ لكل الهموم التي تفرز زخمها عند النوم لتجعل مساءه المتألم طويلا. يُبحثُ عن الراحةِ فتهربَ منه عند الكرى, لأن فكر الإنسان لا ينام وهمّه لا ينصرف إلا بقضاء حاجته وحصول مَسرتِه, ولكن أين هي السعادة والمحبوبة بعيدة, باتَ الهجر بينهما مانعا لذة السبات وراحة الغطيط.
ونلاحظ هنا أن الشاعر يستعمل كلمة الليل وهي مفردة شاعت في الشعر القديم, على الرغم مِن شيوع كلمة المساء في الشعر الحديث, وهو شاعر حديث معاصر ولهذا دلالة عميقة وهي أن الشاعر مُتأثر بالشعر القديم مُطّلِع على آثاره, ممّا جعل هذا التأثر يظهر في انتقاء الألفاظ التي أتت مُناسبة جدا في التعبير عن عواطف وأفكار النص أيّما تعبير.
وكلمة أخرى وُفق فيها الشاعر وهي (عَدوا) لأنها تدل على المثابرة للحصول على قلب المحبوبة. وتدل من جهة أخرى على صدق إحساسه بها.
وفي نهاية هذا المقطع تأتي الكلمة المؤثرة جدا في النفوس وهي:
18ـ فلا تخذليني
إن هذا الفعل اختصر معاني كثيرة يحس ُ بها الشاعر فأتى البيت الشعري عبر هذا الفعل موجزا إيجازا جميلا مؤثرا, لأنه البيت يُجمِلُ المشاعر كلها التي تتأجج في نفسه, فهو يُريدها , يبحثُ عنها , يحتاجُها وغير مُستعِد للتنازل عَنها لذا هو يرفض أن تخذلَهُ بعدَ هذا الحب الكبير الذي يحمِله لها في قلبه الكبير.
فصدودها عنهُ يعتبره ُخذلان كبير يجرُ آلاما لروحه, ولك أن تتخيلَ مِقدار هذا الوفاء كله وهذا الحب كله الذي يعتبر فقدانه خسارة وخذلان في مسيرة حياته.
الشاعر هنا يؤكد لنا صِدق مشاعره وعميقِ عِشقه لها وولعه بها.
ثم ينتقل الشاعر لمقطع آخر فيه أسلوب آخر وهو عرض لِمحاسنه لترى محبوبته مثاليته فتتعلق به وتحبه وفي هذا محاولة لاستجداء الحب منها عبر تحسين الشاعر لصورته أمامها يقول:
19ـ سأعطيك وشوشة الريح في الصيف
نعم هو مَن سيمنحها نسمات الصيف الباردة التي تمنح الروح الإنعاش وتدفع حر الهجير, وهنا الشاعر يُظهر ثقة في النفس كبيرة فهو يعرفُ مدى قدرته على منح الحب.
وهل هناك أحلى من ينبوع الحب, وأكرِم به من عطاء.
والصورة هنا سمعية ـ وشوشة ـ
ولا يكتفي بهذا فيقول:
20 ـ همس النسيم المسافر
وشاعرنا هو مَن يملك منح همس النسمات المسافرات للمحبوبة فتحسها راحة خالدة, وكلمة المسافر هنا توحي بالاستمرارية في العطاء مما جعل الشاعر يُوفق في انتقاء هذا اللفظ, ومما زاد من جماليات هذا البيت هو تكرار جرس السين المهموس الرقيق الذي ينساب في الفم انسيابا رقيقا وكأنه الهمس الذي يتحدث عنه الشاعر مما جعل هذا البيت يبدو متماسكا معنى ولفظا وموسيقية, ليؤكد لنا عن جدارة شاعرنا في فنه الشعري وقدرته الشاعرية العميقة, ليتأصل في نفوسنا موهبته الدفينة وإبداعه الفني ولا يكون الشعر فنا إلا لفئة مخصوصة كشاعرنا الفذ هنا.
¥