ولا شك أن البوح بهذه الصورة تدل على الزمن الحاضر الذي يؤلم الشاعر, وبات يُفضي به إلى محبوبته حيث ُ انقلبت المعايير واختلت الموازين. فماذا تنتظر محبوبته من هؤلاء ولكن عليها أن تنظر إليهِ:
29 ـ فمدي يديك ِ
واليدان هنا تعبير عن الوصل الذي ينشده الشاعر من حبيبته, هو يطلب منها أن تمد يديها ليديه فيحل اللقاء ويصبح الوصال فجرا بعدَ أنْ كان حُلما صعبا.
وأعجبني هنا كلمة مُدي ففي كلمة المد معنى الامتداد والوصل والسعة والفيض كالمد. وهو لم يقل يد واحدة وكان بإمكانه أن يقول مدي يدك ِ ولكنه الطامع بالوصل العميق وتملُك كلها لا بعضها, فأتى التعبير هنا أعمق وأكثر تعبيرا عن المعنى الذي يريدهُ الشاعر وهذا يدل على العاطفة الصادقة التي أفرزتْ معها كل ألفاظ العشق والهيام والحاجة لهما منها ـ بخلاف الضرورة الشعرية أيضاـ
واليد كذلك لفظ له عمق في تراثنا الشعري فإن اليد رمز للعطاء والسخاء ولكن شاعرنا يبحث عن العطاء المعنوي لا العطاء المادي فيسمو بحاجته. ويترفع عن الدنيا الزائلة.لأنه لم يعدْ يُطيق ُ بعدا أو هجرا:
30 ـ فإني توضأت ُ مِن موج عينيك ِ
فهي المَعين الذي ينهلُ مِنهُ, والماء الذي يرويه ويسعفه في كل حالاته, وهي الموج الفياض الزاخر الذي يحتاجه.
وللفعل الماضي دلالة ـ توضأت ُـ هي عُمق المحبة القديمة التي يحملها شاعرنا لمحبوبته التي يترنم ُبها في أغنيته ـ قصيدته ـ وقد اختار العينين لأنهما عند العُشاق لُغة , قِوامها نظرات الوالهين التي تغرق في بريق ِرُؤى أظلال الهيام فتخطِف ناظريهما. وكلمة توضأتُ قد احتوت على دلالة رائعة فإن المحبوبة هي مُلهمة الشاعر التي يستلهمُ منها شاعريته. وفي الكلمة معنى الطُهر والقُدسية. فهو يكتسب من محبوبته الطهر والنقاء والصفاء.
والشاعر هنا يلجأ للفعل الماضي في توضأت ,ُ وهنا نلمح عمق الحب الكبير الذي يكنه الشاعر لمحبوبته فهو الذي حَفِظَ َ لها عهد الحب بكل وفاء.
إنه قلب كبير في زمن الأقزام!
وهو في أتم الاستعداد للحياة معها:
31ـ هيأت ُ دربي للفجر ِ
والفجر هو بداية الحياة الحقيقية التي سيحياها في وجود الحبيبة ومعها ولها فقط. وقد وُفق الشاعر في انتقاء لفظ الفجر لأن في الفجر معاني البِِكر والبدايات والنقاء والنور والجمال والسِحر والسكون, وكل تلك المعاني هو يراها معها. وهنا عاطفة التفاؤل لأن الشاعر يتطلع للمستقبل على الرغم من قسوة الحياة والظروف حوله. وممّا لاشك فيه أن روح التفاؤل تدل على قوة الشخصية وتجدد الحياة.
32 ـ أوقفتُ عمري عليكِ
في هذا البيت يؤكد لنا الشاعر أنه بذل كل ما يطيق لمحبوبته , بل ما لا يُطيق الآخرين أيضا فهو جعل عُمره ُ لها وحدها, ومستعد أن يبقى رهينة لها.! لأجلها
أي حب هذا الذي تنازلَ له شاعرنا بكل ما يملك وإنْ لمْ يَظفرْ بهِ بعد!!
هنا تتضح رومانسية شاعرنا لأن الرومانسي رجل يُحسُ بالزمن أكثر مِن غيرهِ.
33 ـ حلمتُ بعينيك منذ ُ الطفولة
قد يعني الشاعر أنه يحبها منذ كان طفلا غضا صغيرا أو أنه يعني أنه يحبها لدرجة عظيمة وكأنه أحبها منذ زمن بعيد جدا فتعلق قلبه بها.
وفي كلا المعنيين خصوصية جميلة, فالرمزية في الشعر تجعله أوسع أفقا وأرحب ظِلالا. فيحدث بين الملتقي والشاعر تحاور فكري جميل يُثري النص بلا شك.
وذكر كلمة الطفولة تشعرنا بنقاء وطُهر هذا الحب وبراءته وعذريته.
34 ـ نهرا من الدفء ِ يسكنني
إنه يرى محبوبته نهر متدفق يفيض بالدفء الذي يطلبه منها, فيكون هو السكن له في ظلها.
وكلمة يسكنني تناص مع قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) الروم: 21
فالشاعر متأثر بمفردات القرآن الكريم وأساليبه وإنْ لم يعمدْ لهذا عمدا ولكن هي الثقافة حين تنضح على صفحات الأدب فتجّملَهُ.
35 ـ يحتويني
لقد ختمَ الشاعر قصيدته بما عَنْوَنَ لها, وكأنه يقول لنا ولها وللكون كله أنه يريد ُ الاحتواء وهو بحاجة له, والفعل هنا يوحي بأن الحب مستمر في روحه وأن الأمل لن يعدمَه أبدا.
ملاحظات على القصيدة:
1ـ وجود مفردات الحرب والعداوة في قصيدة رومانسية من الدرجة الأولى ـ إنْ صح التعبير ـ مما يدل على حجم أعداء الشاعر الذين أثخنوا حياته وجعا وألما
(الأسنة , الجواد , الكر والفر , الخيول , يقتفيني , تحاصرني).
2 ـ الفعل المضارع كان هو الشائع في النص مما يدل أن الشاعر يحب ُ أن يحيا حياته بكل مراحلها وتفاصيلها ويدل على تفاؤله وتطلعه للحياة وقوة شخصيته
(لا تُنكريني , أحمل ُ , لا تخذليني , تحاصرني , يحتويني) كما تدل هذه الأفعال على تأصل هذا الحب في نفسه وأنه لا زال يحيا لأجله.
3ـ وزن القصيدة هو المتقارب:
فإني / توضأْ/تُ من مو/ج عينيـ/كِ هيأ/ت ُدربِـ/يَ للفجْـ/ر ِأوقفْتُ عمري/عليكِ/ حلمتُ/ بعينيْـ/كِ منذ الـ/طفولة ْ
سطر شعري واحد مستمر يقوم على وزن المتقارب: (فعولن فعولن .... )
وهو وزن خفيف رشيق متناغم يتناسب وموضوع الغزل الذي فيه دعوة للحبيبة وتعبير عن مقدار حبه لها.
..................
تحيتي
¥