إن ملاحظة الجانب البلاغي يجنب أهل التصحيح اللغوي الوقوع في المزلقات؛ إذ مالهم بد من أن يحسبوا لتغير دلالة اللفظ، وتقلب الكلمة بين معناها الحقيقي ومدلولات مجازية حسابه في الاستعمال.
ولهذا الجانب عند علماء العربية اهتمام واسع، إذ انتهوا، عند أول العهد بالتأليف إلى توسع العرب في استعمال الكلمة لأكثر من معنى، فقسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز.
والمجاز عندهم هو: استعمال اللفظ في غير ما وضع له في أصل اللغة لعلاقة بين الوضعين.
ثم ذهبوا يحققون في هذه العلاقات التي سوغت ذلك التوسع، وثبتوها في مصنفاتهم.
وحتى الحقيقة تقسم إلى: الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية. ويختلف اللفظ في كلِّ واحدة عنه في الأخرى.
إنَّ هذه الصفات التي جُبلت عليها العربية مكّنتها من الاتساع، ودَعَم ذلك طابع المرونة الذي انمازت به، فكانت أهلاً لأن تستوعب العلوم والفنون والمعارف، وتنفتح على الأدب، وتتسع لأدق الأفكار غير منطوية على نفسها.
وأحسن جمع من اللغويين والبلاغيين بعدما عرفوا هذا الأمر فدرسوا الألفاظ على أساس دلالتها المجازية، أو اتساع استعمالها لتحقيق الأغراض الشرعية والعلمية وغيرها. وفي الرجوع إلى معجم (أساس البلاغة) لجار الله الزمخشري ت538هـ و (المصباح المنير) لأحمد الفيُّومي ت770هـ وكتب المجازات ما ينور القارئ، ويزيد من يفيد.
ولا أريد أن يفهم من هذا الكلام أني أدعو إلى التساهل في التجاوز بالألفاظ إلى مدلولات اعتباطية من غير تقيد بالقواعد، سيرًا في موكب دعوة التقليد الأعمى لمدارس الغرب في الغموض والرمز السفساف.
الأمر الخامس – الاعتدال في قبول الشاهد أو رفضه:
يقرُّ بعض المعترضين على الأساليب أحيانًا بورود مثلها قديمًا، ولكنه لا يعتدُّ به دليلاً على جوازها لقلته، ثم يكتفي بذكر شاهد واحد يتشبث به في دعواه، ويتخذ من القلة وسيلة إلى القول بالخطأ. وربما يكون هذا الشاهد هو أغرب ما في الباب، وقد توجد شواهد لا يذكرها.
نعم قد يكون هذا مفيدًا لو تعلق الأمر ببنية الكلمة، وبقواعد الإعراب وعلاماته، إذ يفضي القياس على الشاهد الضعيف الفرد إلى التفريع والتشعيب وضياع القاعدة الإعرابية المطّردة. فبات والحال هذه تجاوز الشاذ والنادر، وتجنب القياس عليهما في حدود المعقول مفيدًا.
أما ما يتعلق بدلالة اللفظ، وتركيب العبارة، وأُسلوب التعبير فأرى التريث الشديد في حمل مسائله على الخطأ، لأنه لا يدخل في الفاحش من الخطأ. وأريد به الخطأ النحوي، والخطأ في الأبنية والغلو في استعمال اللفظ العجمي.
ويتصل بهذا الأمر تحكيم بعض من أُولع بالتصويب اللغوي الذوق دون الشاهد؛ فهذا القول جائز عنده لأنه يناسب الذوق مع الدليل ويمتنع من التعبير بسبب ضعف هذه المناسبة حتى لو كان شاهدًا عربيًا، وهذا المذهب في المنع من غير الجنوح إلى الشاهد قبل كلّ شيء مخالف لقانون السماع، فالصواب هو الصواب، والمتذوق من يختار من الصواب ما يطابق مقتضى الحال بعد تجاوز الخطأ.
الأمر السادس: التأني في القول بالخطأ والتحقيق الدقيق:
يحلو لبعض المصوبين أن يستبق إظهار الخطأ. وقد يندفع بعضهم الآخر إلى تلمُّس الأخطاء، والحكم على الأساليب بالضعف معتمدًا على ما يجد في نفسه من اطلاع ومن معرفة باللغة من غير أن يراجع مرجعًا أو يتبع قاعدة لغوية. وهذا التسابق، وتلك العجلة تورثان الضلال في القصد، وتوقعان في سوء التدبير اللغوي.
أذكر أن أستاذًا كان يعرف العربية والإنكليزية. وكان يُملي نصًّا في حياة أديب، وعرضت له في أثناء الإملاء جملة (وَقضَى من عمره أربعين ربيعًا) فوقف عليها معلقًا ثم قال: (أربعين ربيعًا!) ممّا لم تعرفه العربية، وهو من الإنجليزية، فقلت له: إن مثل هذا التركيب موجود في لغتنا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعين خريفًا) [8].
وأُستاذ آخر كان مولعًا بالمنع والتصويب أنكر لفظ (العاديّ) في الاستعمال؛ لأنه المنسوب إلى (عاد) من الأُمم القديمة، يقال للشيء القديم: عاديّ. فقال مستمع حضر مجلسه هذا صحيح، ولكن كيف تنسب إلى (العادة) كما تنسب إلى (البصرة) وشبهها؟ ألا نقول: بصريّ عاديّ؟ فكان هذا الاعتراض مفيدًا للأُستاذ.
وإن تعجب فعجب أن يصير هذا المذهب همّ أناس؛ فإذا دعوا مثلاً إلى ندوة لمناقشة كتاب في العربية، أو تكلموا في مؤتمر بعدوا عن الموضوع الرئيس لقلة زادهم فيه وقصروا كلامهم على (قل ولا تقل). واجتهدوا في التخطيء، وصوبوا سهامهم متعجلين إلى نصوص أعدت للنقاش، والمستمعون بين عالم يربأ بنفسه عن الرد لئلا يضيع الوقت، ويخرج عن الهدف، ومستمع غير مختص باللغة يندهش من عجيب الأخطاء، وغريب الهفوات، فيمتلئ بالشك في قدرة من تناقش دراسته.
وقل مثل هذا في مناقشة الرسائل الجامعية للشهادات العالية حين ينقلب الأستاذ المناقش مصوبًا للأساليب، مخطئًا للتراكيب، تاركًا الأُصول، موحيًا للجالسين بكثرة علمه وعلو فهمه.
¥