فعلى طلبة العلم مراعاة الفرق بين الأمرين، فإن من الناس من قد يظن أم مداراة الناس والرفق بهم ضعف في الدين وتمييع، بينما يظن فريق آخر أن من الرفق بالناس إقرارهم على الباطل، والسكوت عن الأخطاء، وكلا الفريقين مخطئ تائه عن الحق، فليتنبه لهذا الأمر؛ فإنه مزلق خطير لا يعصم منه إلا من وفقه الله وهداه.
خامسا: للداعية في دعوة الناس مسلكان شرعيان دلت عليهما النصوص: مسلك التأليف والترغيب، ومسلك الهجر والترهيب، ويخطئ من يعمم أحد المسلكين مع كل أحد، بل يسلك مع كل مخالف ما هو أرجى في قبوله للحق ورجوعه للصواب، فإن كان التأليف هو الأنفع للمخالف والأرجى في إصلاحه فهو المشروع في حقه، وإن كان الهجر هو الأنفع فهو المشروع في حقه.
فمن سلك مسالك التأليف مع من يشرع في حقه الهجر؛ فهو مقصر مفرط، ومن سلك مسلك الهجر مع من يشرع في حقه التأليف؛ فهو منفر متشدد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإذا كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواما ويهجر آخرين.
وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح،وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل). < مجموع الفتاوى (28/ 206) >
ويقول رحمه الله مبينا خطأ تعميم الهجر أو التأليف دون مراعاة الأصل السابق: (فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية). < مجموع الفتاوى (28/ 213) >.
سادسا: يشرع الهجر لثلاثة مقاصد شرعية؛ دلت عليها الأدلة وقررها الأئمة المحققون من أهل السنة.
المقصد الأول: الهجر لمصلحة الهاجر فللمسلم أن يهجر كل من يتضرر بمجالسته من المخالفين؛ كأهل البدع والمعاصي الذين يتضرر بمجالستهم في دينه.
وقد دل على هذا حديث أبي موسى الأشعري المخرج في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة).< أخرجه البخاري برقم (3101)، ومسلم برقم (2628).
ففي هذا الحديث توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم لمجالسة الصالحين لما فيها من النفع المتعدي لجلسائهم، وتحذير من مجالسة السيئين لما يلحق مجالسهم من الضرر في الدين.
وبهذا يتبين مشروعية مهاجرة من يخشى من مجالسته الضرر على الدين من سائر أصحاب المخالفات، وأما من لا يخشى على نفسه الضرر بمجالسة المخالفين؛ كأهل العلم الذين يرجى انتفاع المخالفين بهم من غير ضرر يلحق العالم في دينه، فهؤلاء لا تشرع في حقهم المهاجرة؛ بل قد يكون المشروع لهم مجالسة هؤلاء المخالفين إن تحققت بذلك مصلحة راجحة.
المقصد الثاني: الهجر لمصلحة الأمة، فيشرع هجر من في هجره نفع متعد للأمة؛ كهجر بعض أصحاب المخالفات بحيث يؤثر هجرهم في زجر غيرهم عن مثل فعلهم.
وشاهد هذا من السنة: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: هل ترك فضلا؟ فإذا حدث أنه ترك وفاء؛ صلى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم).