وقد يترك هجر بعض أصحاب المخالفات العظيمة ممن هم دون المهجورين في الفضل، ومن ذلك تألف النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع بن حابس وعيينة ابن حصن، بل تألفه لبعض المنافقين كعبد الله بن أبي وأمثاله، وكل ذلك بحسب المصلحة ومراعاة الضوابط الأخرى في مسألة الهجر.
4 - ما يتعلق بالزمان والمكان الذي تحصل فيه المخالفة: فيفرق بين الأماكن والأزمان التي تكثر فيها المخالفات والمنكرات وتقوى شوكة أهلها، وبين الأماكن والأزمان التي تقل فيها المخالفات وتضعف شوكة أهلها، فإن كانت الغلبة في الزمان والمكان لأهل السنة فيشرع الهجر مع مراعاة الضوابط الأخرى؛ لأن المخالف ضعيف فيحصل له الزجر بذلك، كما قال الله تعالى في كعب بن مالك وصاحبيه: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) < التوبة: 118 >.
وكما حصل الزجر والتأديب في هجر عمر و الأمة لـ: (صبيغ ابن عسل) على ما هو معلوم.
وأما إذا كانت الغلبة في الزمان أو المكان لأهل الشر والباطل فلا يشرع الهجر إلا في الأحوال الخاصة؛ لأن الهجر لا يحقق مقصده من التأديب والزجر، بل ربما تضرر بذلك أهل الحق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه). < مجموع الفتاوى (28/ 206 - 207) >
5 - ما يتعلق بمدة الهجر: فينبغي أن تكون مناسبة لحال المخالف ونوع مخالفته؛ فإن من الناس من ينزجر بهجر اليوم واليومين أو الشهر والشهرين، ومنهم من يزيد وينقص، فإذا حصل المقصود بالهجر يجب أن يقطع وإلا حصل اليأس والقنوط، كما أنه إذا نقص عن المدة المناسبة لم ينفع.
يقول ابن القيم في معرض ذكره للفوائد المستفادة من هجر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك وصاحبيه: (وفيه دليل على أن هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب ويكون هجرانه له دواء بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء، ولا يزيد في الكمية والكيفية فيهلكه؛ إذ المراد تأديبه لا إتلافه). < زاد المعاد (3/ 20) >
ثامنا: الإنكار على المخالف والرد عليه نصحا له وحماية للأمة من خطئه، من الأصول المقررة عند أهل السنة وهو من أعظم أنواع الجهاد، ولكن ينبغي أن تراعى فيه الضوابط الشرعية والشروط المرعية التي يمكن من خلالها تحقيقه لمقصده الشرعي.
ومن ذلك:
1 - أن يكون بإخلاص ونية صادقة في نصرة الحق والتجرد له.
ومن لوازم الإخلاص فيه: أن يحب هداية المخالف ورجوعه للحق، وأن يسلك كل المسالك الممكنة في تقريب قلب المخالف لا تنفيره، وأن يصحب ذلك دعاء الله له أن يهديه خصوصا إن كان من أهل السنة أو من غيرهم من المسلمين، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الكفار بالهداية فكيف بالمسلمين الموحدين؟!.
2 - أن يكون الرد من عالم راسخ القدم في العلم، يعلم على وجه التفصيل جوانب المسألة المتعلقة بموضوع الرد من حيث الأدلة الشرعية عليها، وكلام العلماء فيها، ومدى مخالفة الخصم للحق، ومنشأ الشبهة عنده، وأقوال العلماء في رد هذه الشبهة والاستفادة من كلامهم في ذلك، كما ينبغي أن يتسم الراد على المخالف بقوة الحجة في تقرير الحق وإزالة الشبهة ودقة العبارة، بحيث لا يظهر عليه في شيء من ذلك أو يفهم من كلامه غير ما أراد، وإلا حصل الضرر العظيم بتصدي من فقد هذه الشروط للرد.
3 - أن يراعى في الرد على المخالف تفاوت المخالفين في درجة المخالفة، ومكانة المخالف في الدين والدنيا، وكذلك التفاوت في الباعث على هذه المخالفة أهو الجهل، أم الهوى والابتداع، أو سوء التعبير، أو سبق اللسان، أو التأثر بشيخ أو أهل البلد، أو التأويل أو غير ذلك من المقاصد الكثيرة للمخالفات الشرعية.
فمن لم ينتبه إلى هذه المفارقات ويراعيها عند الرد لربما وقع في شيء من الإفراط أو التفريط الذي يمنع الانتفاع بكلامه أو يقلل النفع به.
¥