تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم أخذ الله يفصل في هذين الفسادين فقال: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا}. [الإسراء/ 5]. {فإذا جاء وعد أولاهما}: أولى الفسادين، يقول تعالى: سيبعث، وهذا الكلام يحكيه عما مضى وسبق في علمه في اللوح المحفوظ، وفي التوراة، وكان لم يحدث بعد هذا؛ لا الفساد الأول ولا الفساد الثاني، فكان الأمر أن: بعث عليهم رجالا أشداء دمروهم، خربوهم، تخللوا ديارهم كما يتخلل الدم العروق والجسم.

{فإذا جاء وعد أولاهما}، وإذا في لغة العرب التي نزل بها القرآن إذا دخلت على الفعل الماضي يحول مضارعا، إذا جاء: إذا يجيء، وبهذا لما كانت "إذا" وقد دخلت على الماضي؛ كان هذا الفعل لم يقع بعد، ولكن الله سيقول في آخر الفقرة: إنه قد كان.

{فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد – وكل خلق الله عباده - فجاسوا خلال الديار}: قتلوهم، وقطعوا الفيافي والقفار، ودخلوا دورهم، ودخلوا عواصمهم، وخربوا دولتهم، وخربوا ملكهم، وقتلوا واستعبدوا، وأسروا وشردوا وطردوا.

قال تعالى: {وكان وعدا مفعولا}. أي: هذا الوعد الأول، والفساد الأول الذي تخلله هؤلاء العباد؛ عباد الله الأشداء، ذووا البأس والسلطان والقوة، هذا الفساد قد كان شيئا موجودا وذهب. وهذا ما أجمع عليه المفسرون، وأن هذا الفاسد الذي طغوا فيه وتجبروا ثم عاقبهم الله وأدبهم، هذا الفساد قد كان عندما قتلوا أنبياءهم، لم يقتلوا عيسى، وإن كانت نية القتل، والمحاولة قد كانت، قد كانت؛ لكن قتلوا أنبياء آخرين؛ قتلوا يحيى، وقتلوا زكريا، الله قال: قتلوا الأنبياء. وسفكوا الدم الحرام بالآلاف، وهتكوا الأعراض، وأكلوا المال الحرام، وحرفوا كتاب ربهم، وقذفوا أنبياءهم بكل ما لا يكاد يحتمله إنسان في أكفر الكفرة وأفجر الفجرة، وهم مع ذلك لازالوا يقولون عنهم أنبياء، ولا يزالون يقولون عن الكتاب: إنه كتابهم المقدس.

فعندما تجاوز طغيانهم وفسادهم الحد؛ سلط الله عليهم بختنصر البابلي العراقي، فأباد خضراءهم، وشتت جمعهم، وأصبحوا مقطعين في الأرض أمما، كما قال تعالى: {وقطعناهم في الأرض أمما}. هذا الشيء متفق عليه، وقد ذهب.

قال تعالى عن الفساد الثاني: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}. [الإسراء/ 7]. {فإذا جاء وعد الآخرة}: أيضا "جاء" فعل الماضي، كان الكلام عليه بإذا الظرفية معناه: المضارع، وساعة نزول الآية – أي: الفساد الثاني – لم يكن بعد، والماضي تحول مضارعا بدخول "إذا" عليه.

{فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا}: سمى الله الفساد الثاني: المرة الآخرة، وما تعني كلمة "الآخرة"؟. التي ليس بعدها فساد، وليس بعدها كينونة ولا وجود، الله تعالى قسم الكون إلى دنيا وآخرة، سميت الدنيا دنيا؛ لأنها أدنى شيء إلى الموجودين والمخلوقين من خلق الله، ملائكة وجنا وإنسا، وما يتبع ذلك من طير وحيوان. وسمى الآخرة التي ليس بعدها خلق آخر، ولا وجود دنيا أخرى، ولا وجود آخر؛ سماها: الآخرة. يعني: ليس في الكون إلا دنيا وآخرة. الدنيا: فانية، والآخرة هي الشيء الثاني والأخير.

فإذا كانا إفسادين: الفساد الأول بعث عليهم فيه عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا، المفعول: تم، وأما الثاني؛ فسماه: الأخير. ومعناه: هي الثانية والأخيرة. فلو عبر أحد قال: جاء زيد، وأخيرا جاء عمرو. هل يصح أن يقول بعد ذلك: وجاء بكر، وجاء خالد، وجاء عمرو؟. لا!. وإلا يكون التعبير غير صحيح، إلا إذا أراد أن يُعرض عن كلامه أو يَضرب، فيقول: "بل"، و"بل" سموها في لغة العرب: "بل للإضراب"، أي: أضربَ واستأنف الكلام، أضربَ عن فساد القول، وشطب عن الآخر كما يشطب الأستاذ على ورقة الطالب عندما لا يحسن الجواب.

{فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم}: هذا فعل مضارع يدل على حال، والفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال؛ فمعناه: وقت نزول الآية. في الحال؟، لا يمكن أن يكون ما حدث من رسول الله مع يهود المدينة هو الفساد الكبير الذي انتشر في الأرض واحتاج واحتاج واحتاج، ولم يكن فيه لا شركعة ولا بهدلة للمسلمين في المدينة ولا في مكة، لا مسلمي المدينة، ولا مسلمي مكة. هذا لم يكن قط. وإن كان قد قالها بعض الناس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير