صلى الله على محمد صلى [الله] عليه وسلم
على النغمة المعروفة، ينقسم المتظاهرون قسمين، هذا يقول جملة، وذلك يرد بالجملة الأخرى، ثم أخذوا يهتفون بالاستقلال، وبالدعوة إلى الثورة، وأنا أحفظ من هتافهم يومئذ قولهم:
قم يا «سراي» [6] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftn6) وارحل عنا عندنا رجال بارودهم غنّى
واشتد الهياج ومزقت الأعلام الفرنسية وديست، وكان صدام وعراك وجرحى، فلما كان الليل بدأ الثوار يخرجون إلى الغوطة، فكان يوم المولد مولد الثورة.
- 6 -
وفي ربيع الأول منه 1350هـ، أرادت جمعية الهداية الإسلامية (وكان قد مرّ على إنشائها شهور) أن تحتفل بيوم المولد، فاقترحتُ عليها لوناً جديداً من الموالد، هو أن أعدّ محاضرة ألقيها إلقاء بدلاً من المولد المسجع الذي يتغنى به غناء، ووافق أعضاؤها بعد تردد، وكان الحفلة في قاعة المحاضرات في المجمع العلمي العربي، ومهدت لذكر الولادة، وحملت الناس على الوقوف وقراءة الصلاة الإبراهيمية على نحو ما ألفوا في المولد.
وقد طبعت هذه المحاضرة ووزعت على الحاضرين، ونجحت التجربة، ولكنها لم تتكرر.
- 7 -
ومنذ سنة 1920 أخذ الاحتفال بالمولد شكلاً آخر، فصار مباراة بين الأحياء في نصب الأقواس الكبيرة في مدخل كل حي، والأقواس الصغيرة أمام كل دكان، وتزيينها بأغصان الشجر وبالسجاد، وبمصابيح الكهرباء تشغل الليل كله، وكانت الحركة الوطنية على أشدها، يديرها رجال الكتلة الوطنية، ويحركها الطلاب. وكنت ريئس لجان طلبة دمشق، فكان أسبوع المولد سلسلة حفلات في كل حي حفلة يتصدرها كلها الوطنيون. أذكر منهم هاشم الأتاسي وشكري القوتلي وزكي الخطيب ولطفي الحفار وإخوانهم. وكان خطباؤهم من الكهول هؤلاء الزعماء والشيخ بهجة البيطار وجودة المارديني، وكنت أخطب بيها أنا وطائفة من الشباب.
وتحول الاحتفال من «موالد» وملبس وغناء، إلى اجتماعات وطنية تنتهي دائماً بمظاهرات صاخبة وصدام مع قوى الانتداب.
- 8 -
وفي سنة 1943 كان المدير العام للأوقاف صديقنا الكبير جميل الدهان، فاقترحت عليه أن يجعل الاحتفال الرسمي بالمولد في جامع بني أمية، محاضرة في سيرته، وقصيدة في مدحه، وكان ذلك، وألقيتُ أنا المحاضرة والشاعر أنور العطار القصيدة، وافتتح الحفلة شيخ القراء الشيخ محمد الحلواني، والقارئ الشيخ عبده العربيني، رحمهما الله، ولكن لم يتركوا المولد والغناء جملة، بل أبقوا فصلاً منه، يقرأ على الأسلوب القديم، واستمر العمل على ذلك إلى اليوم.
- 9 -
ولما تم الاستقلال، واستقرت الحال، كثر المتعلمون، المطلعون على ما كان عليه السلف، فعلموا أن الاحتفال بالمولد ليس قربة لذاته، وليس عبادة من العبادات المقصودة، ولكنه باب للدعوة إلى الله، والتذكير به، ولم يكن السلف يحتفلون به، لأنه ليس عيداً شرعياً، فالأعياد في الإسلام اثنان: الفطر والأضحى، لا ثالث لهما، ولأنهم كانوا يذكرون الله دائماً، ويتدارسون سيرة رسوله في كل يوم، فلم يكونوا يحتاجون إلى يوم معين يجعلونه للتذكير والدرس.
ورأى هؤلاء المتعلمون أن سيرة كل عظيم تبدأ بمولد، وقراء هذه الموالد يختمون إذا ذكر المولد. وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أنه نبي، وما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولما جاءه الوحي لم يعرف ما هو حتى خبّره به ورقة بن نوفل، وهذه الموالد تزعم أن جدّه عرف أنه نبي، وأمه عرفت أنه نبي، حتى الوحوش عرف نبأ نبوته عند ولادته وتباشرت به.
ورجعوا إلى كتب الحديث، يقابلون ما في هذه الموالد عليها، فرأوا أن أكثر هذه الأخبار التي ترويها الموالد لم يصحّ به الخبر عن رسول الله.
ونظروا في هذه الأغاني التي يدعونها الأناشيد النبوية، فرأوا في بعضها الكفر وفي بعضها ما هو قلة أدب وإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتحوا كتب الفقه ينظرون ما حكمها فرأوا فيها كراهيتها والتنفير منها. فتركوا ذلك كله، وجعلوا حفلات المولد محاضرات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخطباً تصف عظمته، وقصائد في تمجيده، ولعل هذه المحاضرات تنسق وترتب حتى تستوعب السيرة كلها، فتجمع هذه الحفلات المتفرقة، في أسبوع يخصص كل سنة لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، على نحو ما كان في «أسبوع المتنبي» و «أسبوع المعري» و «أسبوع الجاحظ» وغيرهم، ممن كانوا هم وأمثالهم جميعاً ثمرة الروضة التي غرسها محمد.
- 10 -
على أن الاحتفال الحق بمولد الرسول، إنما يكون بالاقتداء به، والاهتداء بهديه، والرجوع إلى الكتاب الذي نزل عليه، والوقوف عند حدوده، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وأن يكون في كل بيت كتاب في سيرته، يقرأ الأب فصلاً منه كل ليلة على أولاده حتى يسلكوا سبيله، ويتخلقوا بأخلاقه، فيكون العمر كله احتفالاً بذكرى المولد، وتعظيماً لها.
هذا هو الطريق، فإن لم تسلكه – كان ما يلقي الخطباء في هذه الحفلات، وما يسمع الناس منها، حجة عليه. نسأل الله التوفيق في الدنيا والنجاة في الآخرة.
[1] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftnref1) مجلة حضارة الإسلام، العدد الثالث، ص 29 - 36، آب 1961م
[2] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftnref2) طه ليس من أسماء الرسول. فمن سمى ولده طه أو ياسين، فكأنما سماه حا ميم أو ألف لام ميم.
[3] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftnref3) الحسكي خادم الأموي خاصة، وهي كلمة عامية لعلها منسوبة الحسكة وهي الشمعدان عند المغاربة ..
[4] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftnref4) من هذه البابة أي من هذا القبيل.
[5] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftnref5) توفي رحمه الله في شعبان سنة 1343 هـ.
[6] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftnref6) الجنرال سراي المفوض السامي الأحمق المجرم الذي أمر بضرب دمشق بالمدافع.
¥