تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[أبو الفداء أحمد بن طراد]ــــــــ[15 Apr 2010, 07:05 م]ـ

قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتي، وحكم وهو المدعي، فلم يدع مذمَّة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزية إلا نحلها للعلم على الأدب .. فلم أدر متى كانت هذه المنافرة، وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصِّة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذلَّه به؟ ...

ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حيّ إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمناً، وأندر وجوداً؟

إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل ذلك أن البشرية قد عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً ... ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل للمرأة الأولى، كلمة الحب، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليها أشد، وبقاء النوع معلَّق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم .. ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً، وهؤلاء الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليلبوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحسَّ الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعراً متأملاً يدع تأمله، أو مصوراً يترك لوحته ليستمع منك قوانين النوس ونظرية لا بلاس؟

هذه مسألة ظاهرة مشاهدة، وتعليلها بيِّنٌ واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم، والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فاعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في الإنسان من تقدير الحقيقة ... وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعني بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعني بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحسّ اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب ـ بهذا المعنى ـ مرادفاً للإنسانية. فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً.

ولْندع هذا التفريق الفلسفي ولْنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية

(السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتكيء على الخيال. فلننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعمّ في البشر والأظهر؟

لاشك أنه الخيال .. فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه. أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق، بل إن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلميحتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية) ولا يبني القانون العلمي إلى على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير