تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المشاهدة، والفرضية، والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيتخيل القانون تخيُّلاً مبهماً، ويضع الفرضية ثم يجربها فإما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانوناً، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية، وقد شبه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسي (أو غيره فلست أذكر) شبه عمل الذهن في المرحلة بعمل الذي يبني جسراً على نهر، فهو يقفز أولاً إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة.

فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.

ثم إن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعاتقد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء. فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التليفزيون، والحياة بعد قرن هي خيال وِلْز في روايته " مستقبل العالم " ...

أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في وصف العلم والجمال مع الأدب، ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيراً على المألوف، والواقع غير ذلك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم. فما كان يظن في وقت ما قانوناً علمياً ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة. والكتاب العلمي الذي ألِّف قبل خمسين سنة لم يعد الآن شيئاً ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته، مهما اختلفت الأعصار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي، كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه ويُتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير.

فأين الحقيقة؟ أي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟

وعَدِّ عن هذا ..... وخبِّرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي تطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟

تقول إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات، إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشره بخيره والنتيجة صفر.

ودع هذا ..... ولنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ الواصلات مثلاً ...

لاشك أن العلم سهَّلها وهوَّنها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفَّر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد البشرية؟

أحيلك في الجواب على (شبنكر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرَّائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاج إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلاماً، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحسّ بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروساً لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنياً) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالساً يدخِّن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً، ونحن مغمضون عيوننا ... لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البَّراق!.

ولْنأخذ الطب ... وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكنَّ ذلك لا يعد مزية لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة، فإذا سرق اللص مئة إنسان، ثم ردَّ على تسعين منهم بعض أموالهم أيعد محسناً كريماً، أم لا يزال مطالباً بالمال المسروق من العشرة؟

انظر في أيّ مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر انتشاراً في فيافي نجد، أم في قصور باريز؟ أو ليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض، بل هو مسؤول عن نشرها كلِّها؟

وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة، هل البشر اليوم (في عصر العلم) أسعد أم في العصور الماضية؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة، ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان، ويصل إليه، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد، فسعادتي ينقصها واحد، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون، لأن عنده تسعة وتسعين مليوناً وهو يطلب مائة. فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر .... وكذلك الإنسان. لم تكن مطاليبه كثيرة في الماضي فكان سعيداً لأنه يستطيع أن يصل إليها، أو إلى أكثرها. أما مطاليبه اليوم فهي كثيرة جداً لا يستطيع أن يصل إلى بعضها فهو غير سعيد!

هذا وأنا لا أعني الأدب بمعناه الضيق، أي الكلام المؤلف نثراً ونظماً، بل أعني الأدب بالمعنى الآخر. أريد كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه لا فرق عندي بين أن تصور غروب الشمس بالريشة والألوان، أو بالألفاظ والأوزان، فالموسيقي أديب، والمصور أديب، والنَّحات أديب، والشاعر أديب، والأدب بهذا المعنى أهم من العلم، وأنفع للبشرية ولو كره العالمون (1)!

* * *


(1) هذا كلام أديب، قلته من نحو ربع قرن، ولست أقول به الآن، والتماثيل محرمة في الإسلام.
((((((((((((((((((((((من كتاب فكر ومباحث، للشيخ الأديب علي الطنطاوي ص (20ـ24) مكتبة المنارة)))))))))))))))))))))))))))))))
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير