تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على أن الأمم كلها قديماً وحديثاً قد فرقت بين العقل والقلب، وجعلت القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقرّ العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحب: أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الأولون والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلاً، فتراءى لي أن منشأ، أن الإنسان الأول لما بدأ يضع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عليه الحبيب، أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئاً، خفق قلبه واضطرب صدره، وإذا فكر فأطال التفكير أحسَّ بألم في رأسه، فاستقر في وهمه أن الرأس مكان الفكر، وأن الصدر محل العاطفة والحبّ، والله أعلم!

ولما سَمَتِ البشرية ووضع عِلْمُ النفس، أقاموه على التفريق بين الحياة الانفعالية القائمة على اللذة والألم، والحياة العقلية المبنية على المحاكمة، والحياة الفاعلة المعتمدة على الإرادة، وليس معنى هذا أن لكل من هذه الحيوات حدوداً تحدها، ومنطقة هي لها لا تتخطاها، لا ليس هنالك عاطفة خالية من العقل، أو عقل لا عاطفة معه إنما نسمي كلاً بالغالب عليه، والظاهر فيه؛ فالقضية المنطقية (المحاكمة) من العقل، الإنسان حيوان، وسقراط إنسان، فسقراط حيوان، هذه مسألة عقلية، لكنك قد تصل بها إلى نتيجة موافقة، تأتي بعد طول بحث عنها فتقترن بها لذة، واللذة مسألة عاطفية، واللذة بالشعور بالجمال مسألة عاطفية ولكنها لا تخلو من محاكمة خفية هي أن كل جميل يلتذ به وهذا جميل فهذا يلتذ به، أو أن المنظر الفلاني لذَّني لأنه جميل، وهذت قد لذَّني، فهذا جميل.

وإذا نحن فرقنا بين العاطفة والعقل بهذا الاعتبار، وجعلنا كل حادثة نفسية تقوم على اللذة والألم من العاطفة، وكل حادثة على المحاكمة من العقل، وجدنا أعمال الإنسان كلها تقوم على عواطف، ووجدنا العقل، أعني المحاكمة المنطقية الواضحة لا الخفية أضعف الملكات الإنسانية وأحقرها وأقلها خطراً في نفسها، وأثراً في حياة صاحبها، وليعرض كل قاريء أعمال حياته يجدها كلها عواطف تسيِّره، ووجد أنه قلَّ أن يعمل عملاً، أو يسير خطوة بهذا العقل المنطقي الجاف.

ولابد بعد من تحديد معنى (الذهن)، فماذا يريد به الأستاذ قطب؟

أما أنا فأطلق العقل وأريد القضايا المسلمة المتفق عليها، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكمبدأ أن الشيء هو ذاته، فهذه البديهيات هي أول ما يراد بالعقل، ومن هنا نقول مثلاً إن ديننا الإسلامي لا يناقض العقل ولا يخالفه، أما الذهن فأفهم منه أنا العقل الفردي، وليس كل ما تعقله في ذهنك يجب أن يكون صادقاً صحيحاً، لاحتمال الخطأ في الاستدلال، ولاختلاف الذهنين في القضية الواحدة، مع ادِّعاء كل منهما أن حكم العقل معه.

ولا بُدَّ أيضاً من التفريق بين خَيِّر العواطف وشريرها، فالشفقة على الفقير، والإقدام على إنقاذ الغريق عاطفة خير، ولكن الغضب المؤدي إلى العداون، والحب الموصل إلى الرذيلة عاطفة شرّ.

* * *

ولندخل الآن في موضوع المناظرة، هل يكفي الذهن وحده، أي المحاكمة المنطقية الجافة، للإيمان؟ الجواب (لا) ممدوةً مؤكدة مكتوبة بالقلم الجليل لا الثلث! الإيمان محلّه القلب لأنه أكبر من أن تتسع له هذه (المحاكمة) وأعلى من أن ينضوي تحتها، هذا العقل إنما يعتمد على الحواس، وحكمه مستمد من مجموع المحسَّات، فإذا جاوزها إلى ما وراء المادة لم يكن لها حكم، وهذا أمر تواردت عليه الأحاديث النبوية وأبحاث أكابر فلاسفة الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: " إذا ذكر القضاء فأمسكوا" أو ما هذا معناه، لماذا؟ لأن مسألة القضاء والقدر، ما خاض فيها العقل إلا كفر، لا لأنها مناقضة له بل لأنها أوسع من طاقته، وهذا عقلي يحاول أن يورد عليّ الآن اعتراضات كثيرة فلا أصغي إليه، وأذكر (ولا يحضرني هذه الساعة المرجع) أن بعض الصحابة شكا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شكوكاً يجدها، قال: أوجدت ذلك؟ قال: نعم، قال: استعذ بالله، ولم يأمره بإعلانها والبحث فيها ـ وهناك الفيلسوف الأكبر كانتْ يؤلف كتاباً هو (نقد العقل) في إثبات هذا الأمر، ويبطل في كتابه الآخر (مقدمة لكل علم ميتافيزيك) علم ما وراء الطبيعة، وجرى على ذلك إمام الفلاسفة الوضعيين أوغست كونت. فالعقل إذن قاصر حكمه على ما يدرك بالحس،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير