ولقد قرأت السيرة كلها وأجهدت نفسي لأجد شيئاً من الأشياء أو مكاناً من الأمكنة قدسه المسلمون وتبركوا به، فلم أجد إلا ما كان من تقبيل الحجر الأسود أو استلامه، وقول عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قلبك ما قبلتك). وأجد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وهو يعاني آلام مرض الموت ينهى عن اتخاذ القبور مساجد، فأعجب من حال المسلمين اليوم إذ لا أرى مسجداً كبيراً إلا بُني على قبر أو كان فيه قبر.
هذا قليل من كثير عرضته مثالاً لما في السيرة من عبرة تنفعنا في نهضتنا ودرس يفيدنا في حاضرنا، فكرت قبل عرضه وترددت، ثم آثرت إرضاء الحق ومصلحة الأمة، ففتحت هذا الباب لندخل إلى هذه السيرة العظيمة، فلا نخرج منها إلا بالحياة والعز والمجد والمزايا التي تعيد للأمة الإسلامية مكانتها في الدنيا. ص109 ـ 112.
3 ـ من أقوى الوسائل اليوم إلى الرزق العلم، فإن فاتك قطاره صغيراً فلا تترد عن اللحاق به كبيراً، فإن العلماء الذين أعرفهم أنا درسوا على كبر فبلغوا في العلم أعلى الذرى كثير كثير، وربما كتبت يوماً عنهم. منهم من أساتذتنا الشاعر الفحل البزم الذي لم يعرفه ولم يطلع على ديوانه هنا إلا القليل من الأدباء، وكنا نعده أحد شعراء دمشق الأربعة الكبار وهم خير الدين الزركلي وشفيق جبري، وخليل مردم بك، والبزم. بلغ العشرين وهو بعيد عن العلم والأدب. بل لقد خبّرني الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) بلسانه أنه قارب الثلاثين ولم يقرأ شيئاً لأبي تمام ولا للبحتري ولا لتلك الطبقة من الشعراء الكبار الذين كانوا يعرفون عند الأولين بالشعراء الشاميين، وإنما كان عاكفاً على شعراء عصر الانحطاط.
وأنا أعرف مما قرأت في الكتب ومما رأيت في الحياة حوادث وحوادث كلها واقع، فيها لمن أراد أن يعتبر عبرة بالغة. لما كنت أدرّس في ثانويات العراق سنة 1937 من خمسين سنة كاملة، كان عندنا طالب رضي الخلق متفتح الذهن مستقيم السيرة، أخذ الشهادة الثانوية فدخل الكلية الحربية وتخرج فيها ضابطاً، وترقى في السلك العسكري حتى بلغ رتبة العقيد، فتبدلت الأحوال في بغداد واضطر إلى التخلي عن رتبته وترك سلكه العسكري، فدخل كلية الحقوق وتخرج فيها وصار محامياً، فاضطر إلى ترك العراق والهجرة منها إلى النمسا، فتعلم اللغة الألمانية ودخل كلية الطب وتخرج فيها بعد سبع سنين طبيباً، وجاء مكة حاجاً من بضع سنين وزارني وسمعت قصته. ص134 ـ 136.
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[14 Jun 2010, 11:36 م]ـ
4 ـ كنت في زيارة صديق لي، شيخ من المشايخ الصالحين المربين، وكان في المجلس اثنان من رفاق ولده من الشباب الأحداث المتأنقين. فأذن المغرب فاستعددنا للصلاة، ولكن أحد الشابين لم يتحرك، فقال له الشيخ: ألا تصلي؟ قال: لست متوضئاً. قال: هذا الماء. قال: شكراً، لا أريد الوضوء. قال الشيخ: الأمر سهل ما فيه مشقة. قال: لا، شكراً.
فتركناهما وصلينا. فلما قُضيت الصلاة فكّر الشيخ فرأى أنه يأثم إن تركهما، فقال لهما: يا أولادي، يقولون إن المغرب غريب، أي أن وقته قصير، وإذا أردتما الصلاة في داركما لم تلحقاها. قال الشاب الثاني: أقول لك الصحيح؟ نحن لا نصلي. قال: ولماذا لا تصليان؟ فقال (بلهجة نابية وجفاء ظاهر): هذه أمور شخصية لا دخل لأحد فيها، ويكفي أني لا أضرّ أحداً ولا أسرق مال أحد.
قال الشيخ: هذه أمور شخصية في نظرك ونظر من أخذوا برأي الأجانب، أما في نظر الإسلام فلا؛ إن من الواجب على كل مسلم أن ينصح أخاه وأن يرشده، وأن يأمره بالمعروف وأن ينهاه عن المنكر. قال الشاب: وهل الدين بالصلاة؟
فقلت أنا: نعم، بالصلاة؛ لا الإسلام فقط بل الأديان كلها. ليس في الدنيا دين، سواء في ذلك الدين الصحيح الذي هو الإسلام والأديان الباطلة، إلا وعماده الصلاة. وإلا ففيم يكون الدين؟ هل يكون بالرقص والتمثيل والقفز على الحبل؟ إن الشيخ يدعوك إلى فرض فرضه الله عليك لم يفرضه عليك هو. قال: أنا لا أنكر أن الصلاة فرض، وأنا أحب أن أصلي، ولكني عندما أرى بعض المصلين أنفر من الصلاة. عندنا في المدرسة شاب يصلي دائماً ويقرأ الأوراد، وهو دجال محتال بعيد عن الأمانة مجانب للاستقامة.
¥