- قال شيخ الإسلام: (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، ... - ثم قال - فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال،) ا. هـ 7/ 506
فقوله: (فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال) هو محل الشاهد، أي أن قول السلف ليس المقصود منه بيان صفة عمل معين أو مرتبته من الأصل أو الكمال أو ذكر أوصاف هذه الأعمال على سبيل التعين وإنما مقصودهم بيان ما تتركب منه حقيقة الإيمان ...
- قد يقول قائل إنه لا فرق بين التكفير بترك العمل بالكلية أو جنس العمل والتكفير بأفراده فأن التكفير بجنس العمل يؤول إلى التكفير بأفراده ويستلزمه، ودليل ذلك أن مسلما لو نطق الشهادتين ولم يعمل من الأعمال إلا إماطة الأذى عن الطريق فهو ذلك قد أتى بجنس العمل وهو على قولكم لا يكفر فإن ترك هذا العمل كفر. فكان ترك إماطة الأذى على هذا المذهب كفر وفعله من أصول الإيمان وأركانه! وهذا تكفير بترك عمل مستحب! فهل يستقيم ذلك؟!
- والجواب عن ذلك أن يقال بأنه قد ثبت إجماع الأمة كفر تارك العمل بالكلية حيث نصوا على أنه لا يجزئ أي من هذه الثلاثة أركان إلا بالآخر فلابد من اجتماع القول والعمل والاعتقاد ليصح إيمان العبد ويقبل ولابد من تقرير ذلك إتباعا لإجماع السلف الذي هو من الأدلة الشرعية المعتبرة عند أهل السنة ...
أما أن من أماط الأذى عن الطريق قد أتى بجنس العمل فنعم، وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم.
والكلام عن إماطة الأذى عن الطريق في هذا السياق ليس مقصودا لذاته وإلا فمعلوم أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان بل من أدنى شعب الإيمان كما في الحديث،وإنما الكلام هنا عن الإماطة أو غيرها من الأعمال كفرد من أفراد العمل عموما يتحقق مسمى العمل أو جنسه بوجوده بحيث لا يصح أن يقال بأنه تارك للعمل بالكلية أو تارك جنس العمل، وحيث أن الجنس إنما يتحقق بحصول أي من أفراده فيستوي في ذلك إماطة الأذى أو غيره من الأعمال.
والقول بأنه لو ترك إماطة الأذى حينئذ يكون كافرا بترك إماطة الأذى غير صحيح! بل يكون كافرا لترك جنس العمل لا لترك إماطة الأذى! وإلا فهو حين ترك إماطة الأذى فقد ترك جميع الأعمال الأخرى أيضا، فليس لذكر إماطة الأذى حينئذ وجه اختصاص لأنه ترك هذا العمل وترك غيره معه فانتقل البحث حينئذ إلى ترك العمل بالكلية لا ترك هذا العمل على وجه الخصوص.
فلا يصح أن يقال حينئذ أن ترك إماطة الأذى كفر أو أن فعله من أصول الإيمان فهذه مغالطة أو سوء فهم.
ومثال ذلك أن يقال: هل في البيت رجل؟ فيقال نعم زيد في البيت.
فهنا لا يصح نفي وجود جنس الرجال في البيت حيث وجد زيد فيه.
فإن قيل هل في البيت رجل؟ فقيل لا. فهنا انتفى الجنس ولم يعد لذكر زيد اختصاص حيث اشترك هو وغيره في عدم الوجود.
وتفسير بعض الفضلاء ما جاء في هذا الإجماع من قوله (لا يجزئ .. ) أي لا يتم ولا يكمل تفسير باطل. حيث أن الإجماع قد ساوى بين أركانه الثلاثة في الإجزاء فهل يلتزم صاحب هذا التفسير القول بأنه لا يكمل الإيمان إذا ترك القول أو الاعتقاد؟!
وأبطل منه قول بعض الفضلاء ممن يفسر القول بأنه لا يجزئ أي (لا يجزئ عن العقوبة) فهذا كسابقه لا يختلف عنه وهو تحكم بلا دليل وتفسير بالرأي!
وتفصيل ذلك أن العقوبة إنما تستحق بترك الواجبات عموما يدخل في ذلك ترك أصل الإيمان فإنه من الواجبات بلا شك فاشترك الأصل والكمال الواجب في أمرين:
الأول: كونهما واجبين.
والثاني: كونهما يسحق تاركهما العقوبة مطلقا.
واختلفا في أمرين:
الأول: كون تارك الكمال الواجب فاسقا أو مؤمنا ناقص الإيمان فلا يكفر،أما تارك أصل الإيمان فإنه يكفر.
¥