42 ـ العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة، والزاهد يدعوهم إلى الله بترك الدنيا فتشق عليهم الإجابة؛ فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه شديد، ولكن تخير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن؛ فإن للبن تأثيراً في طبيعة المرتضع، ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد، وأنفع الرضاعة ما كان من المجاعة. فإن قويت على مرارة الفطام، وإلا فارتضع بقدر؛ فإن من البَشَم ما يقتل. ص247.
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[05 Jun 2010, 05:30 م]ـ
43 ـ فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتاً وهو القلب، ووضع في صدره عرشاً لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى؛ فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه، والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستوٍ على سرير القلب، وعلى السرير بساط من الرضى، ووضع يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه باباً من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة؛ فهي (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه والعمل بوصاياه، وعلّق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده؛ فهو يستمد من (شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار)، ثم أحاط عليه حائطا ًيمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان؛ فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرساً من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه، ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه؛ فهو دائماً همه إصلاح السكن ولمّ شعثه ليرضاه الساكن منزلاً، وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمّه خشية انتقال الساكن منه؛ فنعم الساكن والمسكن.
فسبحان الله رب العالمين! كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب وصار مأوى للحشرات والهوام ومحلاً لإلقاء الأنتان والقاذورات فيه؛ فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها، وهي معدة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتنة الرائحة، قد عمها الخراب وملأتها القاذورات؛ فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام؛ الشيطان جالس على سريرها، وعلى السرير بساط من الجهل، وتخفق فيه الأهواء، وعن يمنيه وشماله مرافق الشهوات واتباع الهوى، وقد فُتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة والركون إلى الدنيا والطمأنينة بها والزهد في الآخرة، وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والتنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات والأشعار الغزليات والخمريات التي تُهيّج على ارتكاب المحرمات وتُزهد في الطاعات، وجُعِلَ في وسط الحقل شجرةُ الجهل به والإعراض عنه؛ فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون والذهاب مع كل ريح و اتباع كل شهوة، ومن ثمرها الهموم والغموم والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها؛ فإذا أفاقت من سكرها أُحضرت كل همّ وغمّ وحزن وقلق ومعيشة ضنك، وأُجرِيَ إلى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور، ثم تُرِكَ ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه؛ بحيث لا يُمنع منه مفسد ولا حيوان ولا مؤذ ولا قذر.
فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت!
فمن عرف قدر بيته وقدر الساكن فيه وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات؛ انتفع بحياته ونفسه، ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته. ص259 ـ 261.
44 ـ قلب المحب موضوع بين جلال محبوبه وجماله؛ فإذا لاحظ جلاله هابه وعظّمه، وإذا لا حظ جماله أحبه واشتاق إليه. ص262.
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[12 Jun 2010, 11:50 م]ـ
45 ـ الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع:
منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه مالا يتعلق به مدح ولا ذم:
فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله و تنفيذ أوامره والاستجابة له؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه؛ فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه.
والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه؛ فإن كثيراً من النفوس ليس همة في سوى ذلك.
وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين. ص270 ـ 271.
46 ـ فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معايبه وتدارك فارطه واغتنام بقية أنفاسه؛ فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم، وإلاّ فلا خير له في حياته، فإن العبد على جناح سفر إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ فإذا طال عمره وحسُن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة؛ فإنه كلما طال السفر إليها كانت الصبابة أجل وأفضل، وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه ونزولاً له إلى أسفل؛ فالمسافر إما صاعد وإما نازل. ص275.
47 ـ قالت امرأة فرعون: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة)؛ فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة؛ فإن الجار قبل الدار. ص285.
48 ـ للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هوّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف.
قال تعالى: (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً * إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً). ص291.
هذا ما تيسر إيراده من فوائد الكتاب، ويليه بإذن الله فوائد من كتاب آخر من كتب الإمام ابن القيم.
¥