وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون قوله تعالى:? الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ?مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله تعالى:? ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ?مثلاً للمنافقين. ويدل على ذلك ما رواه الشيخان في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:” إنما مَثلي ومَثل أمتي؛ كمَثل رجل استوقد نارًا. فجعلت الدوابُّ، وهذه الفراش، يقعْن فيها. فأنا آخذٌ بحِجْزكم، وأنتم تُقحَمون فيها “.
وفي رواية أخرى:” إنما مَثلي ومَثل الناس؛ كمَثل رجل استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش، وهذه الدواب، التي تقع في النار، يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها .. فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها “.
فمثَّل- عليه الصلاة والسلام- نفسه برجل استوقد نارًا، ومثل الناس، الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدوابِّ، التي تقع في النار.
فليس بعد هذا البيان لمدَّع أن يدَّعي أن الذي استوقد نارًا مثلٌ للمنافق، وأن ناره، التي استوقدها خمدت. وكيف يكون منافقًا من أضاء بناره الوجود من حوله، ثم يُؤخَذ بجرم المنافقين؟ وكيف يحكم على ناره، التي استوقدها لهداية الناس بالخمود والانطفاء .. هذه النار، التي أوقدها الله تعالى؛ ليهتدي بنور ضوئها كل موجود في هذا الوجود؟!
ونقرأ قوله تعالى:? ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ?، فنجد لمحة أخرى، من لمحات الإعجاز البياني؛ حيث كان الظاهر أن يقال: {أذهب الله نورَهم}، وكذا قرأ اليمانيُّ. أو يقال: {ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم}.
ولكنَّ الله تعالى، لم يقل هذا، ولا ذاك؛ وإنما قال:? ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ?، فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة، لا مجازًا، واختار النور، على النار وضوئها.
أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فللدِّلالة على المبالغة؛ ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء، دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك .. وبيان ذلك:
أنه إذا قيل: ذهب الشيءُ، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو غير رجعة؛ قوله تعالى:? وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ? (الصافات:99). وقوله تعالى:? فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ? (هود:74).
وإذا قيل: أذهبَ فلانٌ الشيءَ، فمعناه: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبًا؛ ومنه قوله تعالى:?إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ? (إبراهيم:19).
فإذا قيل: ذهبَ فلانٌ بالشيء، يُفهَمُ منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى، التي كان عليها؛ وكأنه التصق به التصاقًا. وليس كذلك: أذهبه؛ ومنه قوله تعالى في يوسف عليه السلام:? فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ? (يوسف:15).
فثبت بذلك: أنَّ {ذهب بالشيءِ} أبلغ من {أذهب الشيءَ}، وأصلهما جميعًا: الذهاب، الذي هو المُضِيُّ. وكلاهما متعدٍّ إلى المفعول: الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول بزيادة هذه الباء، وأن المعنى معها، وبدونها سواء.
وأما اختيار النور على النار وضوئها فلأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حُرموا الانتفاع والإضاءة، بما جاء من عند الله، ممَّا سمَّاه الله نورًا في قوله:? َقدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ? (المائدة:15)؛ فكأنَّ الله عزَّ شأنه أمسك عنهم النور، وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمِّه سبحانه ضوءًا، أو نارًا؛ لتتأتَّى هذه الإشارة.
والنار جَوهرٌ، لطيفٌ، نيِّرٌ، واشتقاقها من نار ينور، إذا نفر؛ لأن فيها حركة واضطرابًا، وتنكيرها للتفخيم. ومن أخصِّ أوصافها: الإحراقُ والإضاءةُ. والإضاءة: فرط الإنارة. يقال: ضاءت النار، وأضاءت، وأضاءها غيرُها، وما انتشر منها يسمى: ضوءًا. والفرق بينه، وبين النور: أن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ كما للشمس. والنور ما يكون من غيره؛ كما للقمر. ومصداق ذلك قوله تعالى:? هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ? (يونس:5)
¥