تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا وقد اشتهر في العرف أن الضوء، ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة؛ ولهذا قال تعالى:? فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ?، فأضاف النور إلى المنافقين، الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار، مع المجتمعين. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، أفاد ذلك أن لهؤلاء المنافقين ضوءًا؛ كما أن للنار والشمس ضوءًا. وهذا باطل. فهم مستضيئون، لا مضيئون. وما انعكس عليهم من ضوء النار، نتيجة استضاءتهم به هو نورهم، الذي أمسكه الله تعالى عنهم، وحرمهم من الانتفاع به. ولو قيل: ذهب الله بنارهم، لفُهِم منه أن النار هي نارهم، وأنهم هم الذين أوقدوها. وهذا خلاف المراد.

وقوله تعالى:? وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ? عطفٌ على قوله:? ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ?. ويُستفاد منه التأكيد والتقرير، لانتفاء النور عنهم بالكليَّة، تِبْعًا لما فيه من ذكر الظلمة المنافية للنور، ثم إيرادِ ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحان. والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة، التي صاروا إليها.

أما قوله تعالى:? وَتَرَكَهُمْ ? فهو إشارة إلى تحقيرهموعدم المبالاة بهم، لما فيه من معنى الطرح للمتروك. و? ظُلُمَاتٍ ? جمع: ظلمة. والظلمة هي عدم النور. وقيل: هي عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي ما منعك وشغلك؛ لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن:? ظُلْمَاتٍ ?، بسكون اللام. وجمعها وتنكيرها، لقصد بيان شدتها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم:” الظلم ظلمات يوم القيامة“؛ فإن الكثرة، لما كانت في العرف سبب القوة، أطلقوها على مطلق القوة، وإن لم يكن ثمَّة تعدد، ولا كثرة.

ومن اللطائف البديعة أن {الظلمة} حيثما وقعت في القرآن، وقعت مجموعة، وأن {النور} حيثما وقع، وقع مفردًا. ولعل السبب هو أن الظلمة، وإن قلَّت، تستكثر. وأن النور، وإن كثُر، يُستقلّ ما لم يضرَّ. وأيضًا فكثيرًا ما يشار بهما إلى نحْو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثيرٌ، والكثير من الإيمان قليلٌ، فلا ينبغي الركونُ إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.

وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة، لا متعددة؛ ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة .. والدليل على ذلك قراءة اليماني:? وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَة ?، على التوحيد.

ومفعولقوله:? لَا يُبْصِرُونَ ? محذوف لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول؛ كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:” والمفعول الساقط من? لاَّ يُبْصِرُونَ ?من قبيل المتروك المُطرَح، الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً؛ نحو? يَعْمَهُونَ ?في قوله تعالى:? وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ ? “.

وفي نفي الفعل بـ?لا ?دلالة على طول النفي وامتداده، واستحالة وقوع المنفي بها أبدًا. وفي إطلاق فعل الإبصار، دون تقييده بمفعول محدد دلالة على أنهم في عمًى تام، لا يبصرون شيئًا؛ ولهذا أتبِع بقوله تعالى:? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ?.

أما قوله تعالى:?صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ?فقيل: مرفوع على الاستئناف، على أنه خبر واحد لمبتدأ محذوف، هو ضمير المنافقين. أو أخبار، وتؤول إلى عدم قبولهم الحق. أي: هم صم بكم عمي.

وإذا كان ظاهر اللفظ يوحي بأنهم متصفون بالصمم، والبكم، والعمى، فإن الله تعالى قد بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم، فقال جلّ جلاله:

? وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى? عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ ِبآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون? (الأحقاف:26).

فدل ذلك على أنهم، وإن كانوا سمعاء الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين، إلا أنهم لمَّا لم يصيخوا للحق، وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم، ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس، وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى؛ كقوله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير