• تقصد عشقي لمدينة السلط الأردنية فأقول: جئتها ابن سبع سنين، وها أنذا ابن سبع وأربعين، أربعون سنة لم أفارقها، أربعون سنة طفولة وصبا وشبابا، من نوافذ بيتي في جبالها الغربية أرى القدس، هواء السلط معطر بشذى القدس، أشمه في منتصف الليل إذ أتمشى على سطح بيتي، وأنا أرقب أضواء فلسطين.
السلط عشقي بعد القدس، أهلها طيبون ورجالها صادقون، أولي شهامة عنيدة حتى الجنون. عندما أتوجه إلى عمان أحس باغتراب عن السلط، أحس أن دمي ليس دمي، وعندما أعود من عمان، وأصل إلى منطقة الحمر بعد مدينة صويلح تبدأ السلط من جديد، يعود لي دمي.
تسألني زوجتي لماذا هذا العشق؟ فأقول في كل زاوية من زوايا السلط ألتقي بطفولتي وشبابي، هنا مدرستي الابتدائية هنا السلط الثانوية، هناك كنت أبيع الصحف وأنا ابن ثمانية أعوام أنادي في الصباح: الدفاع، الدستور، وهما صحيفتا الأردن في ذلك الوقت، وأنادي في المساء: الأنوار، وهي صحيفة من لبنان.
هنا في السلط كان مقهى عباد عام 1969 حيث كنت ابن تسع سنين أعمل نادلا منذ الفجر حتى يحين موعد دراستي في المدرسة حيث كانت مسائية لقلة عدد المدارس، الأجرة تسعة قروش أي كل سنة من عمري بقرش، وبعد انتهاء المدرسة عصرا أعود للمقهى حتى العشاء، الأجرة خمسة قروش.
هنا في السلط عام 1972 كت أنتظر شاحنات البطاطا والعنب من لبنان لتنزيلها، وهنا في السلط عام 1980دورٌ شاركتُ في بنائها بنقل " الحصمة والطوب والباطون " الأجرة خمسة دنانير. وفي تلك السفوح السلطية أقمتُ " السناسل " وهي جدران منخفضة من الأحجار لتسوير الحقول.
أرسم السلط غيبا شارعا شارعا، درجا درجا، عارفا ومعروفا، ففي شوارع السلط أرفع يدي كل دقيقة تحية أو رد تحية، بينما في شوراع عمان تمر شهور بغير تحية.
- ثمة قصائد كتبتها على نمط القصيدة العمودية؟ هل نفهم أن ثمة سيطرة لمفهوم الشكل لديك؟ ألا تفكر في الأشكال الأخرى للقصيدة، ألا تستهويك؟
• إنني أسير الموزون المقفى، والأشكال الأخرى لا تستهويني كتابة، وإن كنت أتذوقها قراءة، كتبتُ شعر التفعيلة فلم يرق لي ما كتبته.
- كلما أردت الكتابة أشعر أني ماء يتسلق الجدران! هل وفق الشاعر في تعبيره من ناحية ما؟
• لن يوفق هذا الشاعر حتى يصبح التسلق باتجاهين تحتا وفوقا، أما من ناحية ما، فهي إما على اعتبار بخار الماء المتصاعد ماء، أو على اعتبار خاصية الماء الفيزيائية المعروفة بالالتصاق الملحوظة في انتقال الماء من الجذور إلى السيقان والأغصان.
- مصطلحات (الحداثة، ما بعد الحداثة) ماذا تعني لك؟
• إن كان المقصود بالحداثة الحداثة في مضاميرالحياة، وفق مصطلحات ومفاهيم منظريها فإنني من أعداء هذه الحداثة إن كانت تثور على القديم ردما وهدما، وإنني من أنصار هذه الحداثة إن كانت تواصل مشوار القديم اجتهادا وعلما. غير أن جلَّ متشدقي الحداثة في عالمنا العربي قد يتنكرون لكنوزنا التراثية، ويترصدون بعقيدتنا الإسلامية.
وإن كان المقصود بالحداثة الحداثة في مضمار الأدب فأقول: إن شاعر الموزون المقفى مطالبٌ هذه الأيام بوحدة القصيدة، بالرؤيا، بالتكثيف، بالإيقاع الداخلي، أكثر مما هو مطالب بالعروض والبلاغة، والتركيب والصياغة. على شاعر الموزون المقفى العناية القصوى بحداثة الأساليب والأفكار في أصالة القوافي والبحار.
أما ما تعنيه ما بعد الحداثة فأخشى أن يكون لها فضل على الحداثة مثل فضل الشعر المنثور على شعر التفعيلة. ونعود للمثل " العور لا العمى "، فهي ثورة لا تبقي الماضي ولا تذره، بأساليب تفكيكية مذهلة أكثر ذكاء من أساليب الحداثة.
- ماذا عن قصيدة النثر؟ هل وجدت مكانا لها بين الأجناس الشعرية الأخرى؟
• كانت قصيدة النثر صاحبة الفضل الكبير على الشعر الحديث (شعر التفعيلة) في أن تقبله معارضوه من باب المثل القائل: (العور ولا العمى)، ذلك أن شعر التفعيلة كان ثورة على البحر والقافية، أما قصيدة النثر فقد كانت القاضية على البحر والقافية، والتفعيلة الحابية.
تطاول بعضهم قائلا إن قصيدة النثر في تحررها من الوزن والقافية واعتمادها على الإيقاع قد رأت في القرآن الكريم أنموذجا مرجعيا لها، وهذا بهتان عظيم، فالقرآن الكريم معجز في معانيه ومبانيه بيانا وإيقاعا.
¥