وقوله ـ تعالى ـ ( .. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10).
وقوله ـ تعالى ـ: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12).
ويفهم الباب الثاني الذي أشرنا إليه في المقدمة وهو باب الإفصاح عن حرص الصحابة والسلف أن تكون كلمة الله هي العليا لأنها هي الفيصل في جمع الكلمة وتوحيد الصف، بعد الإخلاص لله ـ تعالى ـ لأن الباب الثاني يحتاج الإخلاص في المتابعة، وقد تابع الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ نبيهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فلما توحدوا في الطاعة، وكانوا صفاً واحداً، ناسب أن تكون سورة الفتح تالية لسورة الجمعة في النزول فصارت سورة الفتح في مقصودها بمثابة بيان غاية الظهور على أعداء الله وتحقق الانتصارات والفتوحات بسبب وحدة الصف وجمع الكلمة.
وقد افتتح الله تعالى سورة الفتح بقوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1). وختمها بقوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29).
ولذلك حذَّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الافتراق، وحذَّر من اتباع الهوى، وحذَّر من الابتعاد عن منهج الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة".
وهذا يفضي بدوره إلى فهم الباب الثالث الذي أشرنا له في المقدمة وهو باب العبرة مما وقعت فيه الأمم السابقة بعد أن اختلفت كلمتها وتفرق صفها.
فقد أخرج أحمد في مسنده ـ بإسناد صحيح ـ عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً يَعْنِي الأهْوَاءَ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ".
وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَغَيْرُكُمْ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لا يَقُومَ بِهِ.
قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "وهذا يدلك على أن فيصل التفريق بين الحق والباطل إنما هو اتباع الصحابة فيما كانوا عليه، لأن كل الفرق المنحرفة تنتسب إلى السنة، ولا تجرؤ على التبرؤ منها.
وقال: ولا بد أن يكون الوصف المؤثر في هلاك تلك الفرق، والذي تعلق به وقوعهم تحت الوعيد هو مخالفة هدى الصحابة؛ ما دام أن الوصف الوحيد المؤثر في النجاة ـ كما ذكر الحديث ـ موافقة منهاج النبوة، وسبيل المؤمنين الذي كان عليه الصحابة.
وهذا يقتضي أن اتباع منهج الصحابة وما كانوا عليه، مما تلقوه من كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجب يهلك بتركه الهالكون، ويسعد بأخذه الفائزون، وهو اتباع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم في التدين كله. أ.هـ