ولا شك أن للصديق د. محمود أبو فنة يدًا طولى في المناهج الجديدة للغة والأدب، وهو يدعوني للاشتراك الفعال فيها، وقد قمنا بشبه ثورة في مناهج الأدب العربي كذلك، إذ أخذنا ندرّس الألوان الأدبية من قصة ورواية ومسرحية وشعر حديث ومنه الشعر الفلسطيني (المحلي)، كما اخترنا نصوصًا أدبية تمثل اتجاهات أدبية متباينة، وتمثل عصورًا مختلفة. وعلى إثر هذا المنهاج الذي أقِر في الثمانينيات أصدرتُ كتابين مساعدين لتحليل النصوص أتيت على ذكرهما في سيرتي الذاتي هذه في حديثي عن تجربتي النقدية، وفي مواضيع أخرى.
ونشغل هذه الأيام بإعداد منهاج جديد آخر للأدب يلائم القرن الحادي والعشرين بمستجداته المتباينة، ويتلافى ما نقص من المنهاج الأول. ولا شك أن اللجان المختلفة التي تعهد لنا وزارة المعارف بها من شأنها أن تحرك وتحفز، ومن يدري فقد نكون بنينا لبنة في صرح اللغة، أو على الأقل أخلصنا لها، وحرصنا عليها ما وسعتنا الحيلة.
* * *
كنت وما زلت أنفر من التنطع وفضفاضية العبارات في دائرة الخواء، فقلت منتصرًا للغتي يوم أن سيقت للتمسح على الأعتاب:
- تبا للغة المبتذله
لغتي بيعت في سوق الأوحال
تبا للغة المسييه
لقحها عبد الشهوات الدجال
كفرًا بالإنشاء وبالأفعال وبالأسماء
كفرًا إن نأسن في هذي الحال
(تنويعات منا فينا، المجموعة الكاملة، المجلد الأول، ص176)
وكنت وما زلت أنفر من هؤلاء من الذين يهاجمون الجديد، لا لسبب إلا أنهم لا يعرفون أو لا يألفون ما استجد، ولقد أوذيت إثر ذلك، واتُّهمت في لغتي؛فوقف بعض الزملاء متصدين لمنهاج القواعد الجديد لمنهاج القواعد الجديد، وللكتب التي أعددناها، وكأنهم الذادة عن اللغة المنافحون لرد "الكيد" الذي يراد بها، وقد استمعت إلى دعواهم أو دعاويهم، فما أبانوا ولا أفصحوا، بله لاكوا العبارات في أخطاء لغوية فاحشة ... وصبري بالله.
وضقت ذرعًا بأخطاء ولحون يشترطها هذا " اللغوي " أو ذاك، فيجعل الأمر استبدادًا، أو على الأقل استئثارًا، أو على أقل الأقل منظارًا أحاديًا.
ومن باب التيسير – تحمست لفكرة توحيد شكل كتابة الهمزة وجعلها (ئـ) على نبرة في كل موقع. وقد وردت الفكرة أولا لدى بعض أهل المجمع اللغوي في القاهرة وكتب في ذلك الأستاذ وديع خوري (البيادر – القدس – نيسان 1997، ص 19)، وعرض الأمر بشكل علمي الدكتور فهد أبو خضرة " المنبر " (العدد الأول سنة 1989)، ثم كتبت أنا وبموافقة للطرح نصًا تجريبيًا (العدد الثاني 1989) فكان أن تجنى بعض الزملاء الغيورين على ذلك، فوصف صاحب الاقتراح كتابة الهمزة بأنه " ذلك الغبي الذي ظن أن يستطيع أن يسهل الكتابة .. " ... (المواكب 78/ 1993)، ويا سبحان الله!
واللغة وعاء الفكر، وهي بأهلها، وقد لا يروق البعض إذا غبطت العبرية على مرونتها ..... وليس أدل على ذلك من صيغ التصغير فيها أو بناء صيغة لأصحاب المهن، وخلق كلمات جديدة سرعان ما تشيع على الألسن وفي السطور، إذ أن لهم مجمعًا لغويًا لا مجامع، وهم لهم دولة ونظام لا دول وأنظمة.
ولكم عملت جاهدًا على تطويع لغتنا لكل مبتكر، وأن تكون لغتنا العلمية دقيقة المؤدى، ولها توصيل من غير حشو أو ترهل، وأن تكون العربية الميسرة على ألسنة طلابي، كما دعوت إلى ذلك في دورات الاستكمال التي قدمتها لمدرّسي اللغة العربية. وأعتز كثيرًا بأنني لا أني عن تلبية أية دعوة فيها نصرة للغة، وذلك بالتطوع في إلقاء المحاضرات على طلاب المدارس الثانوية المختلفة، وقد كنت من المتحمسين الفعالين في " سنة اللغة العربية " التي تقيمها المدارس بين سنة وأخرى ... ، وحصلت على رسائل تقديرية من هذه المعاهد العلمية، وعلى ثقة المستفتين بالمسائل اللغوية، وليس أدل على ذلك من المكالمات الهاتفية التي تصلني تترى عن معنى هذا الاسم للمولود / ة، أو عن إعراب هذه الكلمة في هذا البيت، أو في الآية. ثم إني كنت وراء المذياع أجيب (في مطالع السبعينيات) عن كل سؤال طلابي من مضمار اللغة والأدب فإذا بي – بعد أن توقف البرنامج – أجيب كل سائل عند معرفتي، أو أنقب في المصادر حتى أفيد أنا وأفيد الآخرين.
وما أكثر ما تعلمت من معاجم الأخطاء الشائعة للعدناني ومصطفى جواد وزهدي جار الله وإميل يعقوب! وما أكثر ما أتصفح " إصلاح المنطق " و " أدب الكاتب " و كتب الألفاظ والمعاني.
* * *
ومن طموحي أن يولي أهل الاقتصاد والاجتماع اهتمامهم برقي اللغة، فيجعلون وكدهم دعم التخصص والدراسة في خضم اللغة، حتى يبحثوا ويعملوا بجد لا تطوعًا واحتسابًا فقط. وما أروع العمل الجماعي إذا كان أعضاء المجموعة الدارسون يتحلون برحابة الصدر ورحابة الأفق معًا.
ومن طموحي كذلك أن نكثر من مشروع " سنة اللغة العربية "، فيكون بين الفينة والفينة وفي كل المواقع، حتى يفسح المجال لزملاء آخرين كي يتعبدوا بمحراب هذه اللغة أو في جوب آ فاقها. وسأسعد حقًا أن أرى أكثر من غواص يبحث عن صدفات اللغة، ويطلع علينا بالدر المكنون الذي يبهجه، فيتنافس الطلاب والكتاب في صنوف الآداب، فالعربية كما يقول عبد الحميد الكاتب " ثقاف ألسنتكم " وها هي في عصر الحاسوب أخذت تصارع بحق وحقيق في سبيل بقائها على الأقراص. فاثبتي يا لغتي!
ثم: هل حقًا يحبك أبناؤك وذووك؟
¥