والضابط الثاني ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه، والأجر لا يكون في الشفاعة إلا إذا كانت شرعية،يقرها الشرع.
وبعض الناس يظن أن كل شفاعة أو واسطة فيها الأجر والثواب،وهذا مخالف لقول الله تعالى: ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها،فدل على وجود نوع من أنواع الشفاعات: حرام،وهي الشفاعة السيئة.
وقد يشفع إنسان ما بجاهه ومنزلته وبكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل.
والضابط الثالث: ((ألا تكون الشفاعة في حدٍ من حدود الله)).
إن الشفاعة في الحدود من الكبائر عدها إبن القيم منها،واستدل بحديث ابن عمر المرفوع: ((من حالت شفاعته دون حدٍ من حدود الله فقد ضاد الله في أمره)) رواه أحمد وغيره بإسناد جيد.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت،فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم،ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلم أسامة رسول الله. فقال: ((تشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه،وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وأيمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت،لقطع محمد يدها)) رواه البخاري.
وهذا في الشفاعة إذا وصل الحد إلى السلطان،فلا تجوز الشفاعة حينئذ،ومن يشفع فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر العظام،مضاد لحكم الله في أرضه وسلطانه لكن إذا لم يصل السارق إلى السلطان أو شارب الخر فالستر عليه والعفو عنه.
ومن أسباب النكبات التي تمر بها بلدان المسلمين تعطيل الحدود الشرعية، بسبب شفاعات السوء،وجاهات الضرار التي تحاد شرع الله، فإذا تعطل الحد الشرعي حلت عقوبة قدرية كونية تشمل المجتمع كليه،قال صلى الله عليه وسلم: ((حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً)).
- يزني الزاني فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد.
- ويشرب الخمر من يشربها فيشفع فيه من يشفع.
- ويسرق من يسرق فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد.
- ويسبُ الدين والشرع ويستهزأ به ولا يقام الحد.
ويرتد من ارتد عن دينه فلا يقام حد الردة.
وكل ذلك بسبب شفاعات السوء،التي تحارب حكم الله وحدوده.
أيها الأخوة: وللشفاعة الحسنة أحكام تتعلق بها،وتنبيهات يجدر بالمسلم أن يتفطن لها. فإذا شفعت أيها الأخ المسلم شفاعة حسنة: فلا يجوز لك أن تأخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة. والدليل ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة مرفوعاً: ((من شفع لأحد شفاعة،فأهدى له هدية (عليها) فقبلها (منه) فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
ومن الناس من يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه: ليعين شخصاً في وظيفة أو نقل آخر من دائرة لأخرى، أو من منطقة إلى أخرى، أو حتى يُدخل مريضاً المستشفى لعلاجه، أو ليُخرج أوراقاً يمكث بها الناس في بعض الديار والبقاع،ويأخذ على هذا مبلغاً مالياً،يشترطه.
إن هذا المقابل المادي حرام لا يجوز أخذه والدليل: ((من شفع لأحد شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق كما يقوله الشيخ العلامة ابن باز،فلو شفعت أخي المسلم لأخيك وجاءك بهدية - بدون أن تشترطها - فلا تأخذها،وأجرك على الله،ولا تجعل باباً للشيطان يُفسد عليك أعمالك الصالحة التي تبتغي بها وجه الله، لا تقبل هدية،ولا مال،ولا خدمة أخرى مقابل شفاعتك وواسطتك، فإن "الشفاعات زكاة المروات".
وإذا قلنا بتحريم - أخذ الهدية - على الشفاعة والواسطة ولو لم تشترط،فإنه لا يدخل في ذلك استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها في الدوائر،مقابل أجرة معلومة، فهذا باب آخر غير مسألة الشفاعة والواسطة،فهو من باب الإجارة: فكأنك تستأجر فلان ليُطارد لك معاملتك وينجزها،فهذا جائز لا شيء فيه، وهو ليس من باب بذل الجاه والشفاعة والمكانة مقابل المال. فهذا هو المحرم.
¥