استثناء من عموم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فآية النور مخصصة لعموم آية الأحزاب، أو ناسخة لصورة القواعد من النساء من عموم آية الأحزاب، فيكون نسخا، باصطلاح المتقدمين الذين يطلقون النسخ على أي زيادة، ولو لم تناف الحكم الأول، وهي مسألة أصولية يظهر فيها أثر الاصطلاح الحادث فالنسخ عند المتقدمين ليس هو النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين، وإليه أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وأما تسمية المتأخرين تخصيصا وتقييدا ونحو ذلك مما فيه صرف الظواهر فهو داخل في مسمى النسخ عند المتقدمين وعلى هذا الاصطلاح فيدخل النسخ في الأخبار كما يدخل في الأوامر". اهـ
"الاستقامة"، ص47.
أو: نسخا جزئيا، باصطلاح الأحناف، رحمهم الله، لأن الحكم زال عن صورة بعينها دون بقية الصور، وسبقت الإشارة إلى ذلك في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
والقواعد: جمع قاعد، ولا تلحقها تاء التأنيث كـ: "حائض"، لأنه من الأوصاف التي تختص بها النساء، فلا حاجة إلى إلحاق علامة تأنيث لفظية بها، إلا إن قصد بها وصف: القعود الذي هو ضد القيام، فهو وصف مشترك بين الذكور والإناث، فيصح دخول التاء عليه تمييزا بين المذكر والمؤنث.
والتخصيص أو النسخ في هذه الآية للوجوب دون الاستحباب، فيجوز للمرأة الطاعنة أن تضع من ثيابها غير متبرجة بزينة، وإن كان المستحب في حقها ألا تضعها، إمعانا في الستر، وقد يجب ذلك في حقها أمام كبير مثلها قد يشتهيها، فعلة الحكم: وقوع الفتنة، فمتى وقعت الفتنة بها وجب عليها الستر.
ويشبه ذلك: نسخ وجوب الوضوء مما مست النار، فهو نسخ للوجوب دون الاستحباب، فيستحب لمن أكل شيئا مسته النار أن يتوضأ، ولا يجب عليه إلا إن أكل: لحم إبل، ففيه نص بعينه يوجب الوضوء من أكله.
وفي الآية من فنون البلاغة ما اصطلح على تسميته بـ: "عكس الظاهر"، في قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)، فتقدير الكلام: غير متبرجات بزينة إن كان لهن زينة، ولكن لا زينة لهن أصلا ليبرزنها، ومثله:
قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
وهم لا يسألون أصلا بإلحاف أو غير إلحاف، فتقدير الكلام: إن كان منهم سؤال فبلا إلحاف، ولكن لا سؤال منهم أصلا.
يقول الطبري رحمه الله:
"فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف؟
قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم". اهـ
وقوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)، ولا شفيع لهم أصلا ليطاع.
وقوله تعالى: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ)، ولا شفاعة لهم أصلا لتغني.
وقول الشاعر:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ******* علي ومعروفي بها غير منكر
ولا وصيد للأرض الفضاء أصلا، فإن الباب لا يكون لأرض مفتوحة، وإنما يكون للغرف المغلقة. فيكون تقدير الكلام: لا يسد وصيدها إن كان لها وصيد، ولكن لا وصيد لها أصلا ليسد.
وقول الشاعر:
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ******* إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا
فلا يهتدى بمناره إن كان له منار، ولكن ليس به منار فيهتدى به أصلا.
وقد اصطلح المناطقة على الإشارة إلى هذا الفن بقولهم: "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع"، فنفي الشيء لا يستلزم وجوده أصلا، تماما كالشرط، فإنه لا يلزم من إيراده جوازه فضلا عن وجوبه، كما في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، وذلك محال لذاته فليس جائزا أصلا فضلا عن كونه واجبا، وإنما سيق مساق التنزل مع الخصم.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.