تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[خواطر في الأسفار والأوطان]

ـ[عبدالرحمن السليمان]ــــــــ[17 - 09 - 2008, 01:16 ص]ـ

فقراء

كنت أستريح من عناء سفر طويل في مدينة السعيدية الشاطئية الواقعة في شمال شرقي المغرب، بإزاء الحدود الجزائرية. وذات صباح نهضت مبكراً وأخذتُ "أَتَقَهْونُ" [1] في حديقة المنزل الذي كنت اكتريته فيها، المطلة على الشارع، فإذا بي أسمع أصواتاً غاية في الحسن، تنشد أناشيد دينية محببة إلى القلوب .. وما إن اقترب الصوت حتى بدا أصحابه، وكانوا خمسة رجال معتمّين بعمائم زهرية اللون مطرزة .. وكان بيد أحدهم راية عجيبة الهيئة والألوان. فلحظوني واقتربوا مني وعرّفوني بنفسهم على أنهم "فقراء إلى الله" من أتباع إحدى الطرق الصوفية، وأن عندهم بعيد أيام حضرة عظيمة بمناسبة التئام شمل "الفقراء" العائدين من ديار الهجرة إلى أرض الوطن في إجازة الصيف، ودعوني لحضور تلك الحضرة التي ستنعقد في محيط مدينة بركان قرب السعيدية ..

فذهبت إلى الحضرة، وكان هنالك أكثر من ثلاثمائة "فقير"، اجتمعوا في صالة دار كبيرة جدا، مزخرفة بالزِّلِّيج [2] المغربي، بعضهم من "فقراء" المنطقة، وبعضهم من "فقراء" إسبانيا وفرنسا وألمانيا وهولندة وبلجيكا .. اجتمعوا حول شيخ الطريقة "مولاي سعيد"، الذي أتى متأخراً بعض الشيء راكباً "سفينة نوح" .. و"سفينة نوح" هذه هي سيارة مرسيدس 500، من نوع "الشبح"، كان "الفقراء" المهاجرون إلى أوروبا قد أهدوها إلى الشيخ الصيف الماضي ..

بدأ الحديث بالتعارف، فقدم كل واحد نفسه، فعرفت بنفسي على أني "فقير سوري" يسوح في بلاد المغرب .. فاعتنت الجماعة بي أيما اعتناء، وقرَّبني الشيخ منه، وسألني أسئلة كثيرة عن أحوال "الفقراء" في بلاد الشام، فأجبته بما أعرف من أحوالهم، وخلصت إلى أنه شخص متطور جداً، بل داهية!

وبينما نحن في الحديث، دعيت الجماعة إلى الطعام: حوالي مائة دجاجة مشوية مزينة بالزيتون والزبيب، فهجم الفقراء عليها هجوماً، فأحالوها في لحظات إلى عظيمات رُفِعَت ليُقدم مكانها حوالي عشرين خروفاً حَولياً [3] مشوياً. فعاود "الفقراء" الكرة؛ وما هي إلا لحظات حتى أحالوا الخرفان فيها إلى هياكل عظمية! وربما جفَّ مورد الكلأ في موضع "فقير" ما، فظعن إلى موضع آخر بعدما دعاه إليه أحدهم بقوله: "اِجْبِدْ مِ هْنا"! [4]

وبعد "الزَّرْدَة" [5] الدسمة، بدأت الحضرة! فاصطف الفقراء وبدأ الشَّطْح. [6] وربما "أخذ الحالُ" بعضهم بمجرد رؤيتهم الشيخ يميل .. وربما استغرق الأمر بالنسبة إلى بعضهم الآخر ساعة أو أكثر قبل أن بلوغ درجات التَّشَوُّف فالفناء .. ودامت الحضرة حوالي ساعتين، برع فيها "فقير" يرتدي لباساً أسود وعمامة سوداء، فأتى بالعجب أثناء "وَجْدِه" .. ثم أعلن الشيخ نهاية الحضرة، وما إن جلسنا حتى أنزلت خرفان مشوية أخرى .. فقلت لذي اللباس الأسود والعمامة السوداء، وقد جلست إلى جانبه لغاية في نفسي، "أيش هذا الفقر يا أخا الفقر"؟! فأعلمني أن فقراءَ كانوا تأخروا في المجيء، وصلوا لتوهم، وأنه لا بد من إطعامهم ..

ثم تحدثت مع ذي اللباس الأسود، وكان شكله الغريب قد أثار فضولي، فعلمت أنه من نواحي الناضور، وأنه من أشهر "الفقراء" في المنطقة، الذين وهبهم الله "أَيدٍ شافية" من كل الأمراض المعروفة والمجهولة، الكائنة والتي لم تكن .. وذكر لي نماذج من شفائه العجيب، وختم بقوله: "إذا شئت أن أنقل لك الكعبة الشريفة إلى هنا، فعلت"!

غادرت الجماعة عائداً إلى السعيدية وأنا أتعجب من صنيع هؤلاء "الفقراء". وعادت بي الذاكرة كثيراً إلى الوراء، إلى رمضان المعظم سنة 1975، وهي السنة التي كنت فيها ابن ثلاث عشرة سنة. تعرفت وقتها على الصوفية في مدينة حماة وسط سورية، و"خرجت" معهم إلى مدينة حلب شمالي سورية، حيث قضيت بمعيتهم الشهر الفضيل في أحد مساجدها درساً واعتكافاً. لم يكن أهل حلب وقتها يختلفون في عادت الكرم عن أهل المغرب، فكانوا يملؤون ساحات المسجد بالطيبات من الأطعمة والمشروبات قبيل الإفطار ـ على عادة أهل الشام في رمضان المعظم. ولكن "أهل الله"، الذين خرجت معهم، ما كانوا يطعمون إلا وجبتهم الوحيدة التي يعرفونها، والتي كنا نحضّرها كل يوم: باذنجان وطماطم وبصل وزيت. كانوا زاهدين في الدنيا وما عليها، وكانوا يدخرون الطيبات لدار البقاء، في اجتهاد لهم على مذاهب أهل الزهد .. وكنا، نحن المريدون، نشتهي ما نرى من طيبات حضرتها نساءُ حلب المشهورات بفن الطبخ العالي ـ ونفسُ الصائم تشتهي كما يقال ـ ولكنا كنا نستحيي ونمسك ونحن نرى المشايخ يمسكون عن اللحم وغيره من لذيذ الطعام ..

ولكني لا أظن أن جميع متصوفة المغرب مثل "فقراء مولاي سعيد"، وأن جميع متصوفة الشام مثل "أحباب الله" الذين وصفتهم، بل أعتقد أن أكثرهم على مذهب "الفقراء" الذين رأيتهم في المغرب، أكلاً ورقصاً، وإلا لما كان أبو العلاء المعري قال فيهم:

أرى جِيلَ التَّصَوُّف شَرَّ جيل ***** فَقُل لهم وأَهْوِن بِالحُلول

أَقالَ الله حينَ عَشِقْتُموه ***** كُلُوا أَكلَ البَهائِم وَارْقُصُوا لي!

وكان أبو العلاء من معرة النعمان. ومعرة النعمان بلدة تقع بين حماة وحلب ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شرح الكلمات المغربية:

[1] تَقَهْونَ: تناولَ القهوة.

[2] الزِّلِّيج: البِلاط.

[3] الحَوْلي: الخروف الذي دار عليه الحَوْل، أي الذي تجاوز عمره العام. ويسميه أهل تونس: عَلُّوش! (وعَلُّوش في بلاد الشام: اسم الدلع لكل شخص اسمه "عَلي").

[4] اِجْبِدْ: فعل أمر من "جَبَذَ"، ويعني في الدارجة المغربية: "أخذَ، سَحَبَ، جذبَ إليه، أعملَ يدَه في الشيء"، وهو فعل فصيح لا يزال يستعمل في اللهجة المغربية دون سواها من اللهجات العربية.

[5] الزَّرْدَة: كناية عن الوليمة العامة التي يحضرها الطفيليون.

[6] شَطَحَ: رَقَصَ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير