فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ ذَلِكَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ" [النسائي: (3125)، وصححه الألباني].
أرأيتَ هذا النبي العظيم وهو في كُربة الحرب وقد تكالب القاصي والداني عليه وأوشكت المدينة أن تكون كَلًئا مباحاً للأعراب واليهود – تراه كالطود الشامخ والعَلَم الراسخ يثَّبت الأرض من حوله، ويرِّسخ الإيمان في جنده، وينشر أحاديث البشائر، وأخبار الفتوحات، وأناجيل النصر، وفتح أوروبا وآسيا وأفريقيا. . فيثَّبتَ الجند، ويخفف عنهم. . وهو بهذه الأحاديث التي تُحيي النفوس؛ يسلِّيهم، ويُخَّفض عنهم، ويخفض جناحه لهم، ويَرأفُ بهم، ويرحمهم.
فما أحوجنا إلى الداعية المُبشر لا المنفر، المُيِسِّر لا المُعسِّر، المعتدل لا المتنطع، المتوسط لا المتكلف. الداعية الذي يغرس في نفوس الناس والنشء بذار الإيمان والثقة بنصر الله، والذي يؤكد للناس مراراً أن الدائرة للإسلام وأن الله متم نوره وأن الغلبة لدينه والعاقبة لأوليائه والتمكين لجنوده، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
بركات ومعجزات:
وعندما ينهمك الرجال في العمل الجهادي الخالص، سرعان ما يُعايشون كرامات المجاهدين وبركات الجهاد، تلك البركات التي تجعل من القليل كثيراً، وتجعل من طعام الواحد ما يكفي لمئات. .
قَالَتْ بْنِت بَشِيرٍ بن سعد:
دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ, فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي, ثُمّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا, قَالَتْ فَأَخَذْتهَا, فَانْطَلَقْت بِهَا, فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي, فَقَالَ: "تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ مَا هَذَا مَعَك؟ " قالت: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ:
" هَاتِيهِ"، قَالَتْ: فَصَبَبْته فِي كَفّيْ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَمَا مَلأتْهُمَا! ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ، ثُمّ قَالَ لإنْسَانِ عِنْدَهُ: "اُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ: أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ! " .. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ! وَجَعَلَ يَزِيدُ! حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ!! [ابن هشام 2/ 218].
وفي هذا المشهد على ما فيه من المعجزة الحسية المُبيِنة، أنْ أنمى اللهُ الطعام في يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذا الشكل العجيب، فطعمَ طعامُ الكف الجيشَ عن بكرة أبيه – وفي ذلك تثبيت للقلوب في هذه الظروف التي قال فيها المنافقون: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ". .. ـ إلى جانب هذا المشهد الإعجازي نرى مشهد البركات التي يصبها الله صباً للمجاهدين، تلك الكرامات التي تتجلى في مشاهد الجهاد، وهي كرامات لن تعدمها ساحات الوغى ما دام المجاهد أقبل إلى الله بقلب صادق منيب.
وكلاهما – مشاهد المعجزات للنبيين ومشاهد الكرامات للمجاهدين – تتنزل ليربط الله على قلوب المؤمنين، ويمددهم بين الفينة والأخرى بمدد من عنده، حتى يمنحهم أكتاف العدو. فاصْدقْ جهادك، يصدقكَ الله في التثبيت.
الحصار:
لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ مِنْ الْخَنْدَقِ, أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ, بَيْنَ الْجُرُفِ وَزُغَابَةَ فِي عَشْرَةِ آلافٍ، منهم بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ, حَتّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى, إلَى جَانِبِ أُحُدٍ [ابن هشام 2/ 219].
فلما تقدموا، وكانت مفاجأة الخندق، قَالُوا – في ذهول: إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا [ابن القيم: زاد المعاد 3/ 240].
¥