تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا يخفى عليكم، أيها الكرام، القسمة الثلاثية المعروفة عند من تكلم في هذا الشأن كشارح الطحاوية، رحمه الله، وأغلب الظن، والله أعلم، أنه ينقل عن ابن القيم، رحمه الله، فهي:

فراسة إيمانية: وفيها الحديث المعروف ومعناه: اتقوا فطنة أو فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله، وفي إسناده كلام إن لم تخني الذاكرة، ولكن معناه صحيح، ومنه أثر عثمان، رضي الله عنه، وقد قاله لما دخل عليه أحد الصحابة، رضي الله عنهم، وقد وقعت عينه على ما لا يحل: يدخل أحدكم وفي عينه أثر الزنا، أو كما قال رضي الله عنه، وامتعاض عمر، رضي الله عنه، من بعض الفتية، لما وفدوا عليه، وقد صاروا بعد ذلك من رءوس الفتنة زمن عثمان، رضي الله عنه، بل قد شارك بعضهم في قتله، فللمؤمن ما يشبه الحاسة السادسة في استكناه دخائل النفوس، ولا يعلم الغيب إلا الله، عز وجل، فإن هذه الانطباعات لا ينبني عليها أحكام شرعية حتى يرد ما يصدقها في الواقع، فهي بمنزلة الإرهاصات التي يستأنس بها كالرؤى المنامية تماما فلا يمكن الحكم على الناس بها قبولا أو ردا، وقد أشار الشاطبي، رحمه الله، في "الاعتصام" إلى طرف من هذا المعنى في معرض كلامه على الرؤى المنامية وهل يحتج بها أو هي مما لا ينبني عليه حكم وإن استأنس به، فهي من قبيل الأمور الوجدانية المتفاوتة، كالفراسة تماما، فقد تصيب وقد تخطئ، فلا معيار ثابت لها يجعلها أصلا مطردا يمكن الاستناد إليه في الاستدلال للأحكام الشرعية فإن ذلك لا يكون إلا للأصول المعتبرة التي أقر الشارع، عز وجل، الاستدلال بها، وكلها أصول لا تخضع للذوق أو الكشف أو الإرهاصات، بل هي معايير علمية دقيقة، فلا يصحح حديث برؤيا أو فراسة وإنما يخضع لمعايير النقد المعروفة عند علماء الرواية والدراية.

وفراسة خَلْقِية: وقد أشير إليها في معرض التقسيم الذي صدرت به المشاركة الرئيسة في هذه النافذة،

فيستدل على الأخلاق الباطنة بالخلائق الظاهرة، وهو، أيضا، أمر نسبي، لا تنبني عليه أحكام حتى يبدي الإنسان ما قد أخفى في صدره، فلا يمكن الحكم على الناس بالظن، وإن احترس به منهم، وقصة الشافعي، رحمه الله، مع أزرق العينين قصة معروفة، فقد صدقت فراسة الشافعي، رحمه الله، فيه، ولكن ذلك لم يظهر ويصر أمرا جازما إلا بعد أن أبدى الرجل خلقه الباطن فوافق ما قد قاله أهل الفراسة في خلقته الظاهرة.

وفراسة رياضية: وهي أشبه ما تكون برياضات الأمم التي فشت فيها طرائق الرهبان والمتصوفة، كأمم الهند وفارس ومن تأثر بهم من النصارى، ومن ثم الإسلاميين من أهل الطريق أصحاب الخوارق والكشوفات، فتصفى النفس، أو هكذا يراد لها!، بجملة من الرياضات الشاقة تتضمن الإقلال من الطعام والشراب والنوم والكلام والحركة ..... إلخ، فهي تشبه إلى حد كبير رياضة اليوجا الهندية، فهي إحدى تلك الوسائل، وقد تحقق لصاحبها نوع فراسة وكشف، ولكن طريقها مليء بالبنيات، لا سيما، وسالكه، غالبا، مزجى البضاعة في العلم، فيسهل على الشيطان اصطياده بكشف أو خارقة يظنها رحمانية وهي شيطانية، وحكايات أصحاب الكشوفات من السالكين طريق العبادة بلا علم أشهر من أن تذكر، وغالبا ما تظهر هذه الأمور في الأمصار والأعصار التي تخفت فيها أضواء النبوة، فهي في أمم كأمم الهند وفارس التي لا تعرف النبوة إلا لماما: كثيرة، ثم تقل في أمم عرفت النبوة، ولو محرفة، كالنصارى، وإن كانت فيهم أيضا كثيرة لبعدهم عن منهاج الحق في حقيقة أمرهم، وإن ثبت لهم نوع انتساب إلى النبوة فذلك هو الذي جعلهم أحسن حالا من الأولين، وتلك من بركات النبوة على من ينتسب إليها ولو زورا!، ثم تقل أكثر في الإسلاميين، وإن كثرت في أصحاب الطرائق الزهدية الغالية من أهل الطريق، فجلهم قليل العلم ضعيف العقل يسهل على الشيطان التلبيس عليه كما في قصة الجيلاني، رحمه الله، وقد أضل الشيطان قبله سبعين عابدا فلم ينج منه إلا بما آتاه الله، عز وجل، من العلم فكان عاصما له من حيل الشيطان ومكائده، ثم تقل أكثر في أهل السنة، فهم أهل الحق الخالص، وداخل دائرتهم تقل تلك الأحوال كلما اقتربنا من الصدر الأول لهذه الأمة، فهم أقلها خوارق وكشوفات، بل لعلها فيهم نادرة تعد عدا، بخلاف من جاء بعدهم، فمحالهم العامرة بأنوار النبوة قد استغنت عن أي كشف أو خارقة تثبتها، فقلوبهم قد ثبتت بما وقر فيها من اليقين، فالأمر على خلاف ما قد يتصور بعض الناس ممن يربط دوما بين الكرامة وقوة الإيمان، نعم الارتباط بين الفراسة بنوعها الإيماني وقوة الإيمان أظهر، لأن منشأ كليهما واحد، بخلاف الفراسة الرياضية التي تنشأ من طرائق للتزكية كثير منها مناف لما جاءت به النبوة في هذا الباب الدقيق: باب تزكية النفوس، فلم تشرع ما يهينها ويذلها كما فعل من غلا في هذا الباب، وإنما شرعت ما يهذبها، فطريقة النبوات، كما هي في كل باب، أكمل الطرائق.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير