وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إلَى سَلْعٍ, فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ. وقد َاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ .. وَأَمَرَ بِالذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الآطَامِ [أي الحصون] [ابن هشام 2/ 219، 220].
لقد ظهرت أهمية الحيل الحربية في هذا المشهد، وتبيَّن رجحان فكرة سلمان، وظهر لنا كيف أن عقل رجل واحد قد يُنجّي أُمة من الهلاك كما في مثال حيلة الخندق التي كانت ثمرة تفكير رجل من المسلمين. فكم من عقل سعدت به البشرية دهوراً وكم من عقل تعست به الأرض قروناً!
ولقد ظهر للمتبصر كيف أن تعب ساعة قد يريحَ دهراً، وكسل لحظة قد يُتعبَ زمناً، فهؤلاء الصحاب تعبوا أشد التعب في حفر الخندق فكان في ذلك مفازتهم، ولو تأخروا عن هذا العمل الشاق المهم لكان في ذلك هلاكهم. فلا تكسل أبداً، وتحيل كل حيلة – شرعية ـ في نصرة الإسلام.
حرب الرسائل:
وأراد المشركون أن يشنوا حرباً نفسية برسالة توبيخية استفزازية .. فأرسل أبو سفيان رسالة مكتوبة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – جاء فيها:
"باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى .. وأساف ونائلة وهبل، لقد سرتُ إليك في جمع وأنا أريد ألا أعود إليك أبداً حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد".
فأرسل له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوابه فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، فقد أتاني كتابك، وقديماً غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب " [الحلبي: السيرة الحلبية 2/ 628].
لا يخفى عليك خطر حرب الرسائل بين الجحفلين، ولا تغيب عن ناظريك تلك الحروب الكلامية التي يتلاحاها الخصوم في كل عصر ومَصر، وإن شئت انظر في قناة الجزيرة الفضائية وفي غيرها من القنوات الإخبارية؛ لترى أثر الكلمة، ووقع اللفظة في الاقتصاد والعلاقات وتحريك دفة الصراعات.
ومن ثم أراك تدرك حكمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرد على رسالة أبي سفيان هذه، على ما عُرف عن الأخير بالغوار البعيد في الدهاء والخِبِّ وجلائل الخُطط، وكيف قام النبي الهبرزي – صلوات الله وسلامه عليه – بتفنيد خطاب أبي سفيان، فقرة فقرة، وجملة جملة، فدمغه، فإذا هو زاهق قد زوى أثره، وصاحبه أسيف حسير، كمن ألقى قنبلة مسيَّلة للدموع في جهةٍ فتلقفها القوم سراعاً قبل انفجارها؛ فردتْ عليه فانفجرت فيه.
بل تراه - ليردعه ـ ينكأ له جرحه القديم في بدر، قائلاً: "وقديماً غرك بالله الغرور". وتراه يلوذ بحول الله ولا يتكبر فيقول: "أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه", وتراه يستبشر لجيشه ويثبط عدوه فيقول: " ويجعل لنا العاقبة". . وينفث الرعب في قلب أبي سفيان ومَن خلفه، فيقول: "وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل" .. ويوبخه قائلاً: "حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب". ....... هكذا يَلْقم القائد هذه المحاولات التي تهدف إلى زعزعة النفوس وخلخلة القلوب، فيردها على العدو وبالاً كالحريق المتسعر.
الحراسة وتدارك الثغرات ومتابعتها:
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يختلف إلى ثلمة في الخندق. تقول عائشة رضي الله عنها: وكان يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن يؤتى المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- في حضني صار يقول: "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم-:"من هذا؟ " فقال سعد بن أبي وقاص: "سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك! ".
فقال:"عليك هذه الثلمة فاحرسها". .
¥