فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله .. فهو ظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمر الله ورسوله؛ فهذا مغفور له خطؤه كما قال تعالى في [البقرة:285، 286]، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الله قال:"قد فعلت"،
ويذكر -رحمه الله- في موضع آخر
أن تأثيم المجتهدين هو مذهب الخوارج؛
حيث يقول عنهم: وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل، فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد -بل الحسنات- ذنوبًا! وجعلوا الذنوب كفرًا ([3])!!
ثم ذكر ابن تيمية -رحمه الله-
أن رفع الإثم عن المخطئين في اجتهادهم مشروط بلزومهم جماعة المسلمين، وعدم مفارقتهم إياهم، وعدم براءتهم من المسلمين المخالفين لهم؛
حيث يقول:
ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة، ومنهم من يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلاً أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة.
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ،
والله -سبحانه وتعالى- يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛
بخلاف من والى مُوافِقَه وعادى مُخالِفَه وفرق بين جماعة المسلمين،
وكفَّر وفسَّق مخالِفَه دون موافِقِه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحل قتال مخالِفِه دون موافِقِه .. فهؤلاء أهل التفرق والاختلافات ([4]).
وفي موضع آخر يبين المؤلف عذر المجتهد إذا أخطأ؛ سواء في الأصول أو الفروع، ويبين
أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع ليس من منهج السلف،
ولكنه ظهر من جهة المعتزلة ثم انتقل إلى أهل السنة، وذلك بعد أن ذكر منهج السلف في الترجيح بين الأدلة التي يسميها بعض المتكلمين "أمارات"؛ حيث يقول:
وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون: بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى؛ فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئًا معذورًا، ولهأجر على اجتهاده وعمله بما تبين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه.
فإذا أريد بالخطأ الإثم؛ فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب مطيع لله فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر؛ فالمصيب واحد وله أجران.
إلى أن قال:
وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جَعْلُ الدين قسمين؛ أصولاً وفروعًا .. لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين،
ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين: إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.
والذين فرقوا بين الأصول الفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون: هذا قطعي، وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيًّا وظنيًّا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكمشرعي يتعلق بالشرع، وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع ([5])
.
ويبين -رحمه الله- أن المجتهدين المتأولين في أحكام الدين غايةُ الحكم عليهم أنهم مخطئون؛
حيث يقول:
وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان؛ متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حِلَّ أمور، واعتقد الآخر تحريمها؛ كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة .. وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، .......
.
وإذا كان هذا في الباغي الذي يخرج على الإمام ونحوه إذا كان متأولاً، فكيف بمن اجتهد في أمر من أمور الدين فقال فيه باجتهاده، فهو وإن أخطأ لا إثم عليه كما تقدم؛ سواء كان ذلك في الأحكام أو في العقائد.
وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول: ..................
......................... ..
......................... ..... ............
([1]) يريد ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عباس م، وفيه الخبر عن نزول ملك من السماء وقوله: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يُؤْتَهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيتَه"، مسلم (806)، في صلاة المسافرين.
([2]) مجموع الفتاوى (3/ 317، 318).
([3]) المرجع السابق (28/ 489).
([4]) المرجع السابق (3/ 348، 349).
([5]) المرجع السابق (13/ 123 - 126).
([6]) المرجع السابق (35/ 75).