تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتصور الفطرة لأمر الربوبية تصور مجمل، فقد ركز فيها التأله للمعبود الحق، حتى يرد العارض المفسد فيحرفها عن الجادة مصداق قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ)، فلا تستغني عن بيان الرسل عليهم الصلاة والسلام ففيه تفصيل ما أجمل، وتقويم ما اعوج.

فالرسالة أمان لأهل الأرض من غضب جبار السماء فبها يصلح العالم وتقام الممالك.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الصارم المسلول" في بيان منزلة النبوات في حياة البشر:

"وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الأرض.

ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجهه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال به الظن والحسبان.

والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.

والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات". اهـ

ويقول في موضع آخر:

"وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ وَأُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَيْهَا وَلَا بَقَاءَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إلَّا مَا دَامَتْ آثَارُ الرُّسُلِ مَوْجُودَةً فِيهِمْ فَإِذَا دَرَسَتْ آثَارُ الرُّسُلِ مِنْ الْأَرْضِ وانمحت بِالْكُلِّيَّةِ خَرَّبَ اللَّهُ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ وَأَقَامَ الْقِيَامَةَ. وَلَيْسَتْ حَاجَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى الرَّسُولِ كَحَاجَتِهِمْ إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ وَلَا كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إلَى حَيَاتِهِ؛ وَلَا كَحَاجَةِ الْعَيْنِ إلَى ضَوْئِهَا وَالْجِسْمِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنْ كُلِّ مَا يُقَدَّرُ وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ فَالرُّسُلُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَهُمْ السُّفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ. وكان خَاتَمُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ: مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ {إنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب} وَهَذَا الْمَقْتُ كَانَ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِمْ بِالرُّسُلِ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا الْمَقْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَمَحَجَّةً لِلسَّالِكِينَ". اهـ

فرسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أكمل الرسالات، إذ فيها من العلم والعمل ما يغني عن غيرها. ولا يرد على ذلك ما حل بالمسلمين في الأعصار المتأخرة فإن ذلك إنما ينظر فيه من أوجه:

أولها: فشل المدنية الغربية في تحقيق السعادة لأصحابها، فقد غذت أبدانهم وأجاعت أرواحهم، فراحوا يتسللون إلى دين الأمة المغلوبة!!!، فهو مهوى الأفئدة الحائرة وإن فرط فيه أتباعه.

وثانيها: أن المدنية الغربية لم تقدم حضارة إنسانية وإنما قدمت حضارة مادية قيمها مصلحية وأخلاقها نفعية، فلا تبغي ثوابا في غير دار الفناء، فهمها تحصيل اللذة العاجلة ولو أعقبتها حسرة دائمة.

وثالثها: أن الواقع يشهد بأن الجماعة التي تعلي شأن الرسالة هي الأكثر استقرارا وطمأنينة، بل إن أي فساد يطرأ عليها سببه ميلها عن تعاليم الوحي المنزل، فتجد التفاوت في المصر الواحد تبعا لتفاوت أشعة الوحي الذي تسطع في سماء بقعة وتخفت في سماء أخرى، بل إن التفاوت يقع في حياة الفرد الواحد فإذا استمسك بالوحي في موطن: عزت نفسه وانشرح صدره وإذا فرط في موطن آخر: ذلت نفسه وانقبض صدره، فالإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا بتفاوت الأحوال فليس إيمان من يصلي كإيمان من يزني أو يسرق. ومن كلام النبوة: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم).

والمعركة الآن بين مدنية: الدروع الصاروخية وشبكات الإنترنت والألعاب الإلكترونية، وحضارة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

ولا غنى عن سلاح النبوة في تلك المعركة الأبدية بين أتباع الرسل ومخالفيهم.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير