كان هناك ناد يضم طلبة المغرب العربي الكبير، ابتداء من طرابلس إلى حدود السنغال، وكان يُطلق علينا جميعا اسم المغاربة، ونحن كنا من الأحرار الذين يقرأون في الأزهر ولا تشرف عليهم جمعية العلماء المسلمين، وكان من ضمن الطلبة الأحرار الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين رحمه الله، حيث سكنت معه في غرفة واحدة لمدة ثلاثة أشهر، ونظرا لوضعنا كطلبة هناك ولا نملك دخلا، أصدر شيخ الأزهر وقتها وابن الجزائر البار الشيخ العلامة محمد الخضر حسين قرارا بأن يصرف الأزهر منحة لجميع الطلبة المغاربة.
وفي نفس الفترة، قرر السفير الفرنسي بمصر أن يصرف لنا نحن الطلبة الجزائريين منحة تقدر بخمس جنيهات، علما أن منحة الأزهر كانت أربع جنيهات ونصف، لكن شهادة للتاريخ، قال الرئيس الراحل محمد بوخروبة (هواري بومدين): "يا إخوة، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها .. ولن نأخذ مال الاستعمار"، مع أننا كنا في أمس الحاجة إلى كل قرش إضافي، ولكن الرئيس الراحل رفض الإذعان للفرنسيين فسلكنا نحن مسلكه.
وفي مصر التقيتم بفخر الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله، فهل من ذكريات معه؟
كانت لنا معه ذكريات كثيرة، وكان إخواننا المصريين يُقدّرون أهل العلم ويُنزلون الناس منازلهم، وكان الشيخ الشرباصي يحترم الشيخ الإبراهيمي احتراما كبيرا جدا فوق العادة، والشيخ الإبراهيمي مع سعة علمه ظريف وبليغ، ولما قُدّم مرة على أساس أنه علّامة الجزائر قال أمام جمع من الحضور: "أنا (علاَمَة) الجزائر ولستُ علّامتها، لكنني علامة رفع لا خفض".
ومن نكته أن بعض إخواننا المصريين أراد مشاكسته، فحذّره صديقه لكن لم يستمع له، وخاطب الشيخ الإبراهيمي قائلا: "أنت ذكي يا شيخ، ما السر في ذلك مع أن الجزائريين أغبياء؟ "، فقال له الشيخ: "في كل بلد نجد الذكي والبليد". فقال المصري: "ولكن ما الفرق بين الجزائري وبين الحمار؟ "، وكانت تفصل بين الشيخ والمصري طاولة، فقال على البديهة: "الفرق بينهما هو هذه الطاولة"، فسكت المصري حياء وندما على محاولته استفزاز الشيخ الإبراهيمي.
وكيف عشتم أثناء الأوضاع المتأزم، في مصر وفي الجزائر؟
توقفنا مرتين عن الدراسة في الأزهر، مرة عند العدوان الثلاثي على مصر، وكان الطلبة الأزهريون قد تدربوا عسكريا، بما فيهم نحن، استعدادا لمواجهات محتملة مع المعتدين. وفي ذلك الوقت ـ أي ما بين عامي 1956 و1957 ـ جاءني هاجس يُلح عليّ بترك الدراسة، وهو شيء أحس به طلبة آخرون، بعد مذبحة ملّوزة وواقعة باخرة (أتوس) ـ وهي باخرة أُرسلت إلى الجزائر مشحونة بالسلاح لدعم المجاهدين، وأوقفها المحتل الفرنسي وقضى على من فيها ـ فجاء أمر من القيادة يقضي بمنع الطلبة من المشاركة في الحرب. فتوجهنا إلى تونس، ولكننا وجدنا أنفسنا خطأ داخل الأراضي الجزائرية، وشرفني الله بحضور معركتين، ورأيت النظام المحكم للجيش الجزائري والأخوّة الكبيرة والصادقة بين المجاهدين.
وبما أنني كنت بدأت دراسة علم القراءات ـ وقد شجعني الرئيس بن يوسف بن خدة رحمه الله تعالى ـ إلى أن أخذت شهادة العالِِمية في القراءات، ومن بين شيوخي السبعة الذين أخذت عنهم هذا العلم كان هناك الشيخ إبراهيم مراد.
بعد ذلك دخلت الكلية العسكرية في القاهرة، وتخرجت منها ضابطا، حيث درست ما بين أعوام 1959 و1961، ثم عُيّنت في وزارة التسليح.
وفي جويلية 1962 رجعنا إلى الجزائر وزرنا أهالينا، ثم أشرفت على تأسيس مركز الشرطة في الواحات، ثم أصبحت محافظا للشرطة على أمل أن أواصل تعليمي العالي، فشغلت منصب المحافظ في دائرة الحراش يوم 13 جانفي 1964، ثم نُقلت إلى شارح الشهداء، وفي 13 جويلية عينت محافظا للشرطة في الميناء لمدة عام ونصف، وبعد ذلك انتقلت بين عدة محافظات. وكنت لاشتغالي بالقرآن الكريم ألقّب بـ"الكوميسار الدرويش". وبسبب ظروفي الصحية، قدمت استقالتي.
وأراد الرئيس هواري بومدين أن أتولى منصبا في الجيش، لكنني رفضت. فغضب عليّ وأصدر قرارا بمنعي من السفر، ولم يُرفع عني الحظر حتى توفي رحمة الله عليه. ولما توفي رحمه الله بكيت عليه، فسألني أحدهم مستغربا: أنت لم ترد العمل معه عندما كان حيا، ولما مات صرت تبكي عليه؟! فقلت له: "إنما أبكي على الجزائر التي ترمّلت".
¥