لم تطُل إقامةُ الطفل قَدْري في موطنه، فقد رحلَ به أهله وهو ابنُ ثلاث سنين، (عام 1931م)، مُهاجرين إلى الشام، فرارًا بدينهم من الهجمَة الشُّيوعيَّة الوحشيَّة على بلادهم، واستقرَّ بهم المقامُ بدمشق، فنشأ فيها وترعرَع، واكتسب لسانَ أهلها وعاداتِهم، فلا تحسَبُه إلا دمشقيًّا عتيقًا أصيلاً، مع مُحافظته على لسان أجداده، فبقي مُجيدًا للغته الأولى الألبانيَّة قراءة وكتابة وتحدثًا.
دراستُه وأشياخُه:
انتسب شيخُنا في أول دراسته الابتدائيَّة إلى مدرسة الأدب الإسلاميِّ، ودرس فيها سنةً واحدة فقط، ثم تلقَّى سائرَ تعليمه الابتدائيِّ بمدرسة الإسعاف الخيريِّ، ونال منها الشهادةَ الابتدائيَّة، وهي الشهادةُ الوحيدة من شهادات الدِّراسة النِّظامية التي حصَّلها، فلم يتابع بعدَها في المدارس الرسميَّة، بل اختَلَف إلى حَلَقات العلم في المساجد، يقرأُ على بعض العُلَماء والمشايخ، وهو ما يزالُ في رَيْعان الفُتوَّة وطَراءة الصِّبا.
ومن العُلَماء والمشايخ الذين قرأ عليهم وتخرَّج بهم:
- الشيخ صُبحي العَطَّار رحمه الله: وهو مَغربيُّ الأصل، وقد كان أستاذَه في مدرسة الإسعاف الخيريِّ، قرأ عليه خَتمةً من القرآن الكريم مع التجويد والإتقان، وأفاد منه كثيرًا في الفقه الحنَفيِّ.
- الشيخ المقرئ محمود فايز الدَّيرعَطاني رحمه الله: وهو تلميذُ شيخ قرَّاء الشام محمد الحُلواني الكبير رحمه الله، قرأ عليه شيخُنا القرآن كاملاً بالمدرسة الكامليَّة، وكان بصَدَد جمع القراءات عليه، إلا أنه آثرَ التفرُّغَ لعلم الحديث الشريف وحفظ السنَّة النبويَّة. وقد كان الشيخُ الدَّيرعَطاني شديدَ الإعجاب بقراءة تلميذه، لا يَفتَأُ يقولُ له: إنك تقرأ القرآنَ بالسَّليقَة.
- الشيخ سُلَيمان غاوْجي الألباني رحمه الله: قرأ عليه الشيخ في علمَي النحو والصَّرف.
- الشيخ محمد صالح الفُرْفور رحمه الله: وهو مؤسِّسُ جمعيَّة الفتح الإسلاميِّ ومعهدها الشرعيِّ، وقد لازمَه الشيخ زُهاءَ عشر سنوات، وتخرَّج به في الفقه الحنَفيِّ، والتفسير، وعلوم العربيَّة.
- وقرأ الشيخ على غيرهم من العُلَماء، وحضَرَ دروسَ كثير من المشايخ في مسجد بني أميَّة الكبير.
مهنتُه وعمَلُه:
رغبَ والدُ شيخنا - بعد تخرُّج ولده في المدرسة الابتدائيَّة- أن يكتسبَ مهنةً تكون له سندًا وأمانًا، يستعين بها على مُتطَلَّبات الحياة في قابل الأيام، ويتَّقي بها صُروفَ الدهر وغِيَرَهُ، فأخذ بيده ومضى به إلى حيِّ (المِسْكِيَّة) القريب من المسجد الأُمَويِّ، يبحث له عن مهنةٍ شريفةٍ يتعلَّمُها، وبينا هما يبحثان أبصرَ الأب شيخًا ساعاتيًّا ذا لحيةٍ سوداءَ وعِمامَةٍ بيضاءَ وجُبَّة، فأحسن الظنَّ به، وعرَضَ عليه أن يعلِّمَ ولدَه مهنة إصلاح الساعات، ولما عرَفَ الرجل أنهما غَريبان، ممَّن هاجر من كوسوفا إلى الشام، استجابَ لطلَبهما؛ حبًّا وكرامة.
ذاك الشيخُ الساعاتيُّ اسمه: سعيد الأحمَر التَّلِّي، وكان متخرِّجًا في الأزهر الشريف، وقد لاحَظَ على شيخنا حبَّه للعلم، وتطلُّعَه إلى تحصيله، فرأى أن يختبرَه ببعض العُلوم، فطلب منه أن يُسمعَه شيئًا من القرآن، فقرأ له آياتٍ منه مرتَّلَةً مجَوَّدَة، فسُرَّ بقراءته الحسَنة المتقَنة، ثم اختبَرَه في بعض أبواب النحو والصَّرف، فأظهرَ براعةً ومعرفة، وكان الوقتُ رمضان فسأله عمَّن لا يجبُ عليه صومُ رمضان، فأجابَهُ ببيتَين من النَّظْم كان حَفظَهُما من شيخه صبحي العَطََّار في المدرسة، وهما:
وعَوارضُ الصَّومِ التي قد يُغتَفَرْ للمَرءِ فيها الفِطرُ تسعٌ تُستَطَرْ
حَبَلٌ وإرضاعٌ وإكراهٌ سَفَرْ مَرَضٌ جهادٌ جُوعُه عطَشٌ كِبَرْ
ولم يكتف الشيخ سعيدٌ بهذه الإجابَة، بل طلبَ منه تفسيرَ البيتَين، ولما أجابَه ابتَهَج وقال: يا بُنيَّ، أنت يجب أن تكونَ طالبَ علم، وشجَّعَه على ذلك، ومضى به إلى جامع بني أُمَيَّة، وضمَّه إلى حَلْقَة الشيخ محمد صالح الفُرْفور، ثم مضى به إلى المدرسة الكامليَّة؛ ليقرأ القرآن على الشيخ محمود فايز الدَّيرعَطاني.
¥