لزمَ شيخُنا معلِّمَه سعيدًا الأحمر يتعلَّم منه مهنتَه، ويقرأ عليه في الفقه واللغَة، ولم ينقطع في أثناء ذلك عن حَلَقات العلم، يَحضُرها بعد صلاة الفجر، وعَقِبَ صلاتَي المغرب والعشاء. ومع انصِرام خمس سنواتٍ من المواظبة افتَتَح شيخُنا لنفسه محلاًّ للساعات، بعد أن مَهَر في إصلاحها، وحَذِقَ صَنعَتَها.
طلبُه لعلم الحديث وتَحصيلُه:
كان المشايخُ المدَرِّسون في الجامع الأمويِّ كثيري الاعتماد على كتاب الحافظ السُّيوطيِّ ((الجامع الصغير))، يَرْوون أحاديثَه ويستشهدون بها، وقد حُبِّب إلى شيخنا الرجوعُ إلى كتاب ((فيض القدير بشرح الجامع الصغير)) للمُناوي، يراجع فيه أحكامَه على الأحاديث التي أوردها السُّيوطي، وقد أحزَنَ الشيخ وأمضَّه ما كان يراه من كثرة استشهاد المشايخ والخُطَباء بالأحاديث الضَّعيفَة والمنكَرة والموضوعَة، ومن هنا تحفَّز لحفظ الأحاديث الصَّحيحة، ونشرها وإشهارها.
كان صحيحُ الإمام مسلم أوَّلَ كتاب من كتب السنَّة يقرؤه، ثم قرأ بعدَه صحيح البُخاريِّ، والسُّنَنَ الأربعة.
وقد كَلِفَ بحفظ السنَّة النبويَّة، فكان دَيدَنَه وهِجِّيراهُ حفظُ عدد من الأحاديث الصَّحيحة كلَّ يوم، يُعينه على ذلك ما أكرمَه الله به من هِمَّة عاليَة، وحافظَة واعِيَة، ومَضاء عَقل، ونَفاذ بَصيرَة، وكان حصادُ ذلك كلِّه المنزلةَ الساميَةَ التي تبوَّأَها بين أهل العلم عامَّة، وأهل الحديث خاصَّة، حتى غَدا أُمَّةً في الحفظ والرِّواية غيرَ مزاحَم، يقرُّ له بذلك المخالفُ قبل الموافق، وقد زادَت محفوظاتُه من الأحاديث على عَشرة آلاف حديث.
ومما تميَّز به شيخُنا أيضًا: حفظُ أسماء رُواة السنَّة وأنسابِهم، وحفظُ تواريخ وَفَياتِهم، وكان في ذلك آيةً قليلَ النظير.
وإن تعجَب فعَجَبٌ ما تراهُ من استحضار الشيخ للأحاديث النبويَّة، وسرعته في استخراجها من مَظانِّها، حتى لَتَخالُ السنَّة ماثلةً بين ناظرَيه، وما كان ليَتأتَّى له هذا لولا إدمانُه النظرَ في كتب السنَّة الشريفة وكثرةُ مدارستها.
عمَلُه في البَحث العلميِّ وتَحقيق التُّراث:
وكان من صُنع الله به أن سَنَّى له العملَ فيما يرغَبُ فيه ويَحرِصُ عليه، فقد تركَ العمل في مهنَة الساعات وانضَمَّ - سنة 1377هـ الموافق سنة 1957م - إلى فريق البَحث العلميِّ وتحقيق التُّراث بالمكتب الإسلاميِّ لفضيلة شيخنا المجاهد زهير الشَّاويش حفظَ الله مُهجَتَه، إلى جانب كَوكَبَة من أعلام السنَّة والحديث والعلم في هذا العَصر، منهم: الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله، والشيخ شُعَيب الأرناؤوط حفظه الله، وشيخُنا المربِّي الدكتور محمَّد بن لطفي الصبَّاغ أنسأ الله في الخير أجلَه، والشيخ عبد القادر الحتَّاوي الدُّومي رحمه الله.
هذا، ويظنُّ بعض طلاَّب العلم أن الشيخَ عبد القادر شقيقٌ للشيخ شُعَيب، وليس الأمرُ كذلك، بل هما أخَوان في الله، وزَميلا دراسة، وعمَل، ودَعوة.
استمرَّ شيخُنا في المكتب الإسلامي زُهاءَ عشر سنوات كانت من أخصَب سني عُمُره، أفاد منها إفادةً كبيرة في معرفة كتُب تراثنا الإسلاميِّ في شتَّى علومه وفنونه، وأحكَمَ فيها صَنعَةَ التحقيق العلميِّ إحكامًا، واضْطَلَعَ فيها بتحقيق عدد كبير من الكتُب العلميَّة الشرعيَّة ومراجعتها، منفردًا ومشاركًا.
فممَّا شارك في تحقيقه الشيخَ الألباني: ((مشكاة المصابيح)) للتِّبْريزي، أما الشيخُ شُعَيب فقد شاركَه في تحقيق غير قليل من الكتُب، منها: ((روضَة الطالبين)) للإمام النَّوَوي، في الفقه الشافعيِّ، و ((الكافي)) للإمام موفَّق الدين بن قُدامَة المقدِسي، في الفقه الحنبليِّ، و ((زادُ المسير في علم التفسير)) للإمام ابن الجَوزي.
وتولَّى الشيخُ إدارةَ المكتب الإسلاميِّ مدَّةً من الزمَن، في إبَّان غياب الشيخ زهير عن سورية؛ لظُروف قاهرَة. وبقيَ الشيخ متعاونًا مع المكتب الإسلاميِّ حتى وافَتْه منيَّتُه، وكان من آخر ما عملَه للمكتب: إعادة تحقيق ((شرح ثُلاثيَّات الإمام أحمد بن حنبل)) للسَّفَّاريني.
نتاجُهُ العلميُّ:
¥