رأى صلاح الدين في الأمة انحرافات سلوكية، فكانت الخمور والخمارات، وكان الفساد والانحراف مستشرياً، يضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله، وارتفاع رحمته، وبُعد نصره - سبحانه وتعالى - الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجَّه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحانات، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهَّر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله - عز وجل - من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه للعدو والسهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي، التي ذكر ابن القيم في كتاب [الجواب الكافي] من آثارها الوخيمة - ليس على مستوى الفرد بل على مستوى الأمة والكون كله - كلاماً جميلاً لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه.
ج - إحياء الحركة العلمية:
طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي، وكان ذلك بمثابة معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر، ثم كان هناك جهالات خاطئة، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله، وسنة رسول الله وكانت هناك شطحات صوفية، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول، وغير ذلك من الأمور، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة، وتربطها بكتاب الله، وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتربطها بعلماءها وقادتها، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية، وبنى المدارس التي كثير منها في بلاد الشام ومصر يعود إحياؤها أو إنشاؤها إلى صلاح الدين - رحمة الله عليه - كالمدرسة الأشرفية والصالحة والعادلية وغيرها وكثيرٌ منها، وأحيى ما درَس من العلم، وقوَّى الحركة العلمية فنشر علم الكتاب والسنة وربط الأمة بسلفها وعلماءها، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه.
د - توحيد الرايات:
ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة، حيث كان المسلمون أمارات مختلفة، وبعضها متنازعة , وبعضها متناحرة، فسعى إلى ضم بعضها الى بعض , فضم مصر إلى الشام , وأرسل أخاه إلى اليمن , وأخذ اليمن معه، ثم جمع كثيرا من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، واجتمعت الكلمة عليه، وانضوى تحته الأمراء والقادة , فتقدمت الأمة حينئذ بأسباب النصر .. ثقة بالله عز وجل، وتحققاً بصدق الارتباط به، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى، ثم بارتباط بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - علماً ونشراً ودعوة، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل.
هـ - التحريض والحث:
وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين، ولعلنا - أيضاً - نقف مع ومضات تاريخية، نرى فيها هذه الصورة كيف اجتمعت في صلاح الدين؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت؟ بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها، فمما ورد في هذا الشأن أن النصارى بنوا حصنا بجوار دمشق، وبدأوا يناوشون ملك حماة الملك المظفر، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن، فقال: نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بناءه، فدفع لهم مائة ألف فطمعوا وزادوا، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره - إذ كان صلاح الدين مرجعاً له ولكثير من الأمراء - في أن يدفع لهم أو يزيد؟ فقال له صلاح الدين رحمة الله عليه:
" أقول هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله سيسألك عن إعطائهم هذا المال، تعطي أعداء الله المال لماذا؟ وأنت قادر على المسير إليهم , والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد , وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله أعد العدة لذلك , وسر بعساكرك إليهم , والله في معونتك ونصرك ".
و - التأليب والتحفيز:
ثم يصور لنا صلاح الدين كيفية حثه للأمراء للمشاركة في هذه المعركة ـ حطين - في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة 579 هـ يقول:
"وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم، وأن يحزموا بجميع العساكر أوامرهم لأمرائهم ـ فماذا كانت النتيجة؟ - فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء، ويعشق لقاء الأعداء , .. لا عشق لقاء الأحبة ".
¥